قلق الرهانات المسرحية العربية:
يروم هذا الكتاب (1) مساءلة تلك الإشكالات العائمة التي تتولد من المسرح أو العاملين بالحقل المسرحي، إشكالات ارتبطت خصوصا بهوية الإنسان العربي منذ وجوده إلى اليوم، أهم إشكال يواجهه الكتاب ويواجهه العالم العربي برمته: فعل القلق، قلق يعمق جراحه ومأساته، فهل فقد الإنسان العربي السيطرة تماما على كل ما له صلة بالثقة؟
إن هذا القلق الذي يخيم بظلاله على تاريخ الذاكرة العربية: سياسيا، اجتماعيا، ثقافيا، ودينيا.. واصل تطوره عبر تاريخنا ليتمكن من جنس وليد في الثقافة العربية هو جنس المسرح، كان القلق يلف الظاهرة المسرحية: قلق الإنتماء والهوية والتجريب واللغة
هل المسرح جنس عربي أم غربي أم هو تمظهر من تمظهرات الإنسان البدائي؟ هل هو "حلال أم حرام"؟ كيف ينبغي أن نوظف المسرح هل بلغة عالمة أم بلغة شعبوية؟ ثم كيف يستطيع جنس مازال في مهده أن يخترق قواعد لم تتبلور بعد؟ هل المسرح العربي مسرح تجربي؟ وعلى ماذا يتأسس التجريب؟ ثم ماهي السيرورة القلقة التي يمر منها الفعل المسرحي قبل أن يتلقاه الجمهور؟ كيف يفهم الفريق المسرحي العمل؟ ما هي حدود التأويل المسرحي عند المخرج و الممثل والدراماتوروجي؟ هي إشكالات كبرى وعميقة يتوزعها هذا الكتاب.
إن الإنسان العربي يجابه الدخيل كيفما كان نوعه، رفضت الدعوة المحمدية، رفضت الأقليات، رفض الشعر الحديث، رفضت الفلسفة، رفض التصوف، ورفض المسرح هو شكل آخر من أشكال الرفض العربي، حتى أن هذا الضمير لم يعد يفرق بين الرفض والقبول. وإن كان هذا الرفض يترجم انكماش الذات على تكرير الماضي بطريقة تحسرية، فإن هناك من رفض الفهم التراثي للتراث ودافع عن أشكال الحداثة، وكان بديهيا كذلك أن تبحث بعض الأقلام عن تبريرات تاريخية لهذا المسرح؛ أي التنقيب في التراث لاستخراج "أشكال مسرحية" أو فرجوية، تعتمد الحكي لتبرر هذا الفراغ (أو القلق) الذي يلف الظاهرة. بل إن هناك من وجد مبررا فلسفيا لوجود مسرح عربي تراثي كما فعل ادريس يوسف، وذالك باعتبار الأشكال الاحتفالية تمسرحا.
هل عرف العرب قديم أشكالا مسرحية؟ ثم هل عرفوا الرواية والقصة والتشكيل..؟
لا يكتفي أن تقترب بعض الأشكال الجمالية من جنس ما، أو تقاسمه فعلا، حتى نعتبر تلك الأشكال هي نوع من أنواع ذاك الجنس، " فالذين قدموا فرضية وجود المسرح في ماضي العرب اعتمدوا على الخلط بين الأشكال الفنية وهدم الحدود بين الأجناس التعبيرية حتى تسنى لهم دمج أشكال تعبيرية أو شعائرية في خانة المسرح وما هي بذلك"( 2 ) .إن هذا التعويم الجنسي أملته بالخصوص نزعات دينية أو قومية باعتبار أن القدماء خاضوا في كل شيء، فيكفي أن نجد فكرة العاملية في كتابات ابن مضاء الأندلسي حتى نعد البنيوية كشفا عربيا، وكذلك العمران مع ابن خلدون، والنحو التوليدي مع سيبويه..
وقد أثر قلق الإنتماء على الشكل المسرحي الأكثر تناسبا مع المحيط العربي وأثر على علاقته بالأجناس الأخرى. ففي المسرح تجتمع الأجناس:الشعر والسرد والتصوير والتشكيل والرقص والغناء وغيرها من الفنون، ويتماهى الجميع لتأثيث الفرجة. وفي هذا التماهي تلتقي الأصالة بالحداثة في شكل أسئلة ومواقف تلعب على الخشبة، ولعل من أهم الإشكالات التي تفرضها اللحظة المسرحية: إشكال اللغة.
اللغة كيان خطي تتجاوز أبعادها التواصلية الضيقة، لتبحث عن متخيل في الذاكرة، تحلم أن تعلن تثوير وجودنا، أن ننتمي في لحظاتنا، والمسرح لحظة قبل كل شيء لحظة مرتبكة، تتجاوز المفهوم الحرفي للغة_ أو السوقي للكتابة كما يسميه ديردا _ لترسم لغة مرئية وأخرى ضمنية تتجلى فوق الركح وفي انعكاسات الظلال، وتسلط الأضواء، ودهشة المتفرجين. إنها صمت مشتعل. وبهذا المعنى يتجاوز المسرح الإشكال الضيق الذي مازال عائما فيه إلى يومنا هذا. هل نكتب المسرح ونلعبه بلغة عالمة أو بلغة شعبوية؟
إن هذا الإشكال الذي عانى منه المسرح العربي كان نتيجة اصطدام وعيين، وعي يؤمن باللغة العربية أصلا وتراثا وقداسة، ووعي يرفض أي قداسة ويدعو للغة "طلائعية" تتجاوب مع مكونات "الطبقة الكادحة"، فيتناسل عن هذه الثنائية المتعارضة ثنائيات أخرى: المسرح أمام الثقافة العالمة واللغة الفصحى والقداسة والأصالة، أو أمام الثقافة الشعبوية واللغة العامية والتدنيس.. وتستمر التناقضات.. هذا القلق المفتعل لا يخدم طموحات المسرح بقدر ما يعيق تطوره، إن لغة المسرح ينبغي عليها "أن تخلخل كيانا ما، أو تفتح أفقا ما في المتفرج أو في الممثل ولم لا في المسرح نفسه(3 ) . وبهذا المعنى فإن المسرح يتجاوز المفهوم السوقي للغة، لينفتح عن لغة الجسد والعيون ولغات أخرى مضمرة.
إن جسد المسرحي نسق من الإشارات والحركات القلقة والحروف المتناثرة، إنه جسد يرفض أن يخضع لقيود اللغة وقيود التقنين. إنه فعل يخدش مضمراتنا أو مانتناساه، لهذا فهو غير خاضع للتصنيف أو الحصر. ولعل هذا السبب ما جعل المسرح العربي ينفتح عن قلق من نوع آخر قلق التجريب.
المسرح العربي ولد ولادة تجريبة قلقة، فكيف يتمكن فعل التجريب من المسرح وهو لم يتبلور بعد؟ نعلم أن أي تجريب لشكل جمالي ما ينبغي أن ينطلق من تراكم، أي من القواعد والمبادئ الموجهة، ثم ينزاح عن هذا النظام، وبذاك يصبح فعل التجريب بعدا جماليا وثقافيا. إن فعل التجريب تم إما عن طريق إحياء بعض النصوص التراثية كما فعل مؤسس المسرح العربي مارون النقاش في مسرحية أبو الحسن المغفل، وذلك بغية تأصيل مفهوم المسرح عربيا، أو تجريب اتجاهات غربية كما فعل سعد الله ونوس ويوسف إدريس.
إن فعل التجريب كان يغلف دائما بالأصالة والحداثة أو بالقديم والحديث مما جعله يفشل في بلوغ لحظة "انطلاق تجريبي حقيقي"(4 ) . هذا "البنك من القلق" جعل المسرح يختزل جميع الإشكالات التي تعرفها الأجناس الأخرى، فمتى يفلس البنك من القلق؟قلق التلقي المسرحي:
يمر الفعل المسرحي من مسارات متعددة قبل أن يصل إلى الجمهور، يمر عبر المؤلف والدراماتروج ومصمم الأزياء ومهندس الإضاءة والمخرج والممثل والجمهور والناقد..ولكل واحد حدود تلقيه، فالناقد يتعامل مع الفعل المسرحي باحترافية، لأنه مطالب "بالنبش في حقيقة المتخيل"( 5 ) . وينبغي أن يكون قادرا على إبراز تلك الحقيقة ومساءلتها، لهذا فالناقد قارئ محترف، ونظرا لأهمية المتلقي في تشكيل الفعل المسرحي تم إحداث وظيفة جديدة له تتمثل في الدراماتورجي، هذا الشخص الذي يضطلع بمهمة أكبر تتعلق بتكييف النص مع العرض، وبهذا المعنى تبدو "الدراماتورجيا مهارة تلقي عند حافاتها دينامية تلقي النص المسرحي ودينامية الإخراج ونقل النص إلى نصوص أخرى مخالفة تبني مكونات الخشبة"( 6 )
إن الدراماتورجي ناقد أول، أو هو مطالب بأن يكون حاذقا أكثر من اللازم، فهو يفترض الإختلالات والهفوات ويملأها. وبهذا المعنى يغدو ناقدا من نوع خاص، أو لنقل إنه ناقد نموذجي أو ينبغي له أن يكون كذلك. وكما يحدد الدراماتورجي مجاله في ملء فراغات الخشبة، فإن مهندس الضوء يبحث عن العلاقات الممكنة بين جسد المسرحي والخشبة والجمهور والنص ليبلور هذا التكتل في قالب تعبيري، فهو يتلقى العمل من زاوية إشعاعه وبروز أصواته الدفينة، ويبحث مصمم الأزياء في أنماط العادات والتقاليد والمستوى الاجتماعي للشخصيات الورقية ثم يرسمها فوق أجساد متخ إن تطور هذا النص الورقي عبرسيرورة من التلقي يتدخل فيها كل جنس حسب حسب ثقافته وتصوره الأمثل للظاهرة يحتضن المخرج هذه الأشكال أو الفاعليات المتنوعة من التلقي ليولفها في قالب مسرحي"هذه المجاهدة هي التي تجعل من المخرج ناقدا بامتياز"(7 ) . وأمام هذه الفاعليات وأنماط تلقيها يواجه المخرج المحك الحقيقي الذي هو جسد الممثل بحمولته الثقافية المضمرة ومواقفه الخاصة، جسد يتمكن من المتن المسرحي ويلعبه، ولهذا فإن المخرج يقوم بتوجيه الممثل "يسطر إنتقالاته وتحركات جسده، ويسمح له في نفس الوقت بالإضافة والإبداع" (8 )
إذن فالممثل المسرحي مطالب بتلقي العمل المسرحي كما يتصوره المخرج في صورته النموذجية. لكنه في المقابل يتمتع بهامش من التلقي الحر ويتمثل في الإرت
لقد وضع المخرج ثقته وتلقيه في رحمة الممثل، هذا الممثل الذي ينشر حمولته الثقافية على ذلك النص ويتدخل فيه بعفوية أثناء اللعب المنظم، تدخل لم يكن مبرمجا لا في النص ولا في الإخراج، وهذا ما يجعل "الارتجال فعالية تلق خاص بالم
الارتجال فعل مفاجئ على الأقل بالنسبة للمخرج والعاملين معه، ومن ثم فإن الممثل يتجاوز أحيانا العرض المشروط ليلون وتيرته حسب اللحظة المسرحية بإكراهاتها وإمكاناتها المحدودة لتصل "أحيانا إلى التعارض مع رغبات المخرج"(10 )
وأثناء ممارسة هؤلاء العاملين بالمسرح، فإنهم يتطلعون إلى فعل مسرحي أمثل، لهذا فإن من البديهي أن يتمكن منهم قلق خاص أثناءاللعب، وهو قلق مشروع طبعا.
قلق المسرح المغربي:
يواجه المسرح المغربي أسئلته الشائكة في جو قلق مرتبك، ولعلها أسئلة من نوع خاص جدا، أسئلة تستحضر بداية المسرح المغربي، وارتكانه إلى الهواية بعدما تدخلت جهات لمنع مهنيته، وأخرى تتعلق بمساره المهني، واتخاده شكلا وسطا بين الهواية والاحتراف.
أسئلة تبحث عن المشترك المفقود، عن أسباب النكوص الذي عانى منه المسرح والمسرحيين، هل يعود إلى المسرح كجنس وكطبيعة تجعل وضعه قلقا خصوصا في ظل نظام مازال الهاجس الأمني يؤرقه؟ أم أن مناهضي التنوير والتقدم عرقله ولادته الطبيعية واعتبروه ابنا غير شرعي للمغرب، لهذا لم تعترف ببنوته؟
مسارات قلقة عرفها المسرح المغربي منذ ولادته، فقد ولد في أحضان التكفير والتحريم رغم أن بطل هذا المنتوج شخصية تاريخية حررت القدس "إشارة لمسرحية صلاح الدين الأيوبي". كان فعل المسرح يترجم الحداثة والتقدم، وكان التكفير يبحث عن مبررات للإحتفاظ بالإمتيازات التارخية التي بدأ المسرح يناوشها. فتوة وجدت صداها في محيط مازال مغلفا مندهشا لم يختمر السؤال في ذهنه.
إن تطور الممارسات المسرحية في المغرب نتيجة وعي مسرحي، جعله يجابه الثقافة التقليدية ويثورعليها، لكن سلطة هذه الثقافة المحافظة التي تسكن واقعنا، وجهت المسرح المغربي، فحرفت توجهه، إذ بعدما كان المسرح في عهد الاستعمار يتوجه صوب الاحترافية والمهنية، أصبح المسرح في ظل الاستقلال مجرد نزوة في مراهقة الشباب، حتى أصبح مسرح الهواة يمثل التجربة المسرحية المغربية لقد حاولت بعض فعاليات المسرح البحث عن حل يجمع بين المشروع التنويري (الاحترافية وقيم الحداثة) وبين الرؤية المحافظة "التي أغلقت الأبواب أمام ترسيخ قانوني ومهني لحرفة المسرح (11) . لكن هل نجحت هذه الفئة القليلة من التخفيف عن آلام المسرح وواقع لقد ظل المسرح المغربي يعيش في شرنقة الهاجس الأمني، قلق روجت له تلك الأصوات المتحجرة التي تحيى في ظل التخلف وتستمره لمصلحتها الشخصية. ويوم أعلن النظام تصالحه مع الشعب وتدشين مرحلة الإنتقال الديمقراطي وتبني الحداثة خيارا ثقافيا للتقدم، بدأت تلك الأصوات تخفت وتبحث عن مبررات ثقافية تدين تطلعات الحركة المسرحية التنويرية، خصوصا بعدما تم الإعتراف بالمسرح كمهنة.
لقد عاش المسرح المغربي قلقا مستمرا، كانت له نتائجه الكارثية في حياة من تبنوا هذا الوليد غير الشرعي على الأقل كما يراه خصوم الحداثة، وكأن تلك الأيادي مازالت تبحث عن سبل للإجهاز على المكتسبات التي حققها المسرح بفضل صموده. وكلما حلت كارثة ما بهذا الطفل إلا وسارعت تلك الأبواق لحشد الهمم وأخذ العبر.
الهوامش:
[1] _ قلق المسرح العربي للدكتور سعيد الناجي، عن دار ما بعد الحداثة، الطبعة الأولى 2004.
2 _ قلق المسرح: ص 10.
3_ نفسه: ص 19.
4 _ نفسه: ص 29.
5 _ نفسه: ص45.
6 _ نفسه: ص57.
7 _ نفسه:ص 69.
8 _ نفسه: ص 71.
9 _ نفسه: ص 75.
10 _ نفسه:ص 80.
11 _ قلق المسرح: ص117.