«أعطوني مسرحاً أعطكم شعباً عظيماً» شعار يحمله كل هواة المسرح سواء كانوا متفرجين او مشتغلين فيه، والكل يعلم ان نجاح أي عرض مسرحي هو مرهون بوجود الجمهور،
وهذا ما يؤكده المسرحي الكبير ستانسلافسكي حين يعد الممثل والجمهور شريكين في نجاح أي عمل مسرحي فيقول: «إن المتفرج والممثل على السواء شريكان فعّالان في تمثيل المسرحية»، ومن الملاحظ في قوله هذا أنه أعطى الأسبقية للمتفرج قبل الممثل كدليل على أن وجود المسرح مشروط بوجود الجمهور، أما مارك كونللي فقال: «المسرحية يجب أن تكون عملية نقل دم ناجحة بين الممثلين والمتفرجين، إذ لا يمكن أن تُتاح الفرصة لنجاح المسرحية ما لم يقم هذا الاتحاد بين الجانبين، وكلما كان الكاتب ماهراً في فنه كان من السهل على الجمهور أن يشرب هذا الدم الجديد فيجري في عروقه هيناً وليناً»، هذا ما يؤكد استحالة وجود المسرح من غير ممثل، واستحالة وجود المسرح من غير المتفرج، فهما مرتبطان مع بعضهما ارتباطاً وثيقاً، وهما العمودان المؤسسان تاريخياً للمسرح، ويشتركان في العملية الإبداعية فيه، ولأن المسرح عنصر أساس في العملية المسرحية، وهو من يشكل الجمهور وذائقته ومستوى فكره، إلا أنه لا يخفى على أحد أن جمهور المسرح هجره منذ فترة طويلة لعدة أسباب ربما أهمها ابتعاده عن ملامسة هموم الإنسان العربي وعدم فهمه لواقعه السياسي والاجتماعي والاقتصادي وعجزه عن التعبير عن قضاياه اليومية، ما أدى إلى التباس هذه العلاقة بينه وبين المسرح، وعملية إرجاع الجمهور إلى صالة المسرح تتطلب الكثير من الجهد الفكري والأدبي. لأنه العنصر الأساسي في المسرح ولأنه جزء من الحالة المسرحية.
عن سبل إعادة هذا الجمهور المحتمل إلى الصالة المسرحية والتي يرى البعض أنه من الصعوبة عودته كان لـ «تشرين» وقفة مع بعض المشتغلين بالمسرح من نقاد ومخرجين فإلى التفاصيل:
انعطافات حادة
تقول ميسون علي الأستاذة في المعهد العالي للفنون المسرحية: إن المسرح يمر اليوم بمرحلة تاريخية تمس وجوده نتيجة للظروف والتحولات التي طرأت على المجتمع، وحين تتلاحق الأحداث دامية مدوَخة يُفجَر ذلك في وعي كل المسرحيين الأسئلة الجوهرية المتعلَقة بعملهم... ماهو المسرح وما هو دوره وعلاقته بالجمهور؟ هل المسرح قادر على استيعاب التحولات الكبيرة التي طرأت على الحيا ة ليتمكن من التعبير عنها ومد الجسور والتواصل مع الجمهور؟ وتتابع: لنكن واضحين منذ البداية، ولنعترف أن المسرح أصبح بعيداً عن نبض المجتمع في اللحظات الراهنة، ونحن بحاجة إلى ولادة حركة مسرحية حقيقية تتناول وتعكس وتعالج شخصية الإنسان العربي عامةً والسوري خاصةً في ظروف حياته المعيشية والفكرية، التي تتعرَض إلى انعطافات حادَة في مسيرته التاريخية منذ البدايات وحتى الآن، فالمسرح لم يصبح حاجة فنية ثقافية يطلبها المُشاهد ويُقبل عليها، ونحن لن نتوصل إلى تحقيق فاعلية مؤثرة مهما قدمنا من أنشطة وجهود مختلفة في هذا الميدان، تأليفاً وعرضاً وبحثاً وترجمة، وشتَان ما بين الأنشطة المسرحية التي تجتمع في المناسبات المهرجانية (من دون الإقلال بطبيعة الحال من أهمية الجهود المبذولة من أجل تحقيقها) وما بين أن يكون العرض المسرحي ذاته ذا وزن ثقافي في الواقع الحياتي، وتضيف: ظل المسرح طارئاً من دون هوية محددة... من هنا يجب أن نسارع إلى الوقوف موقفاً حاسماً لإعادة النظر في الأسس و البُنى والتوَجهات التي نعمل حسبها. سواء على صعيد العمل المباشر في التأليف والعرض، أو على صعيد النقد والبحث، وذلك انطلاقاً من فهم وإدراك عميقين لحركية مجتمعنا في الظروف الراهنة التي يمرَ بها على الصُعد كافة. وترى، أنه لا بد من أن يتضافر شرطان أساسيان: الأول هو جرأة المسرح على تحطيم أو تغيير بنيته الداخلية، والثاني هو أن يتوافر داخله مناخ ديموقراطي حقيقي، والشرطان متلازمان لا يمكن فصل أحدهما عن الآخر، أو على الأقل لا يمكن أن يُبدّل المسرح بنيته الراكدة والتقليدية، وأن يتحول حدثاً فاعلاً (وهذا يعني انحلال صيغة وابتداع صيغ جديدة في العمل المسرحي)، إلا إذا تيسر له هامش من الديموقراطية الفعلية.
غياب الهم المسرحي
من جهته المخرج والناقد المسرحي حكيم مرزوقي يبدي أسفه على المسرح لأن معظم المشتغلين به، أغلبيتهم من الموظفين المنتفعين وليس من المبدعين المهووسين بالهمّ المسرحي، إضافة إلى أن وزارة الثقافة أو بعض الموظفين فيها وفي المسرح القومي يتعاملون مع الفرق الخاصة كأبناء الجارية، مثل (نظرة القطاع العام للقطاع الخاص)، ولكي لا نظلم الجمهور فأنا مازلت متمسكاً بمقولة «كيف ما كنتم يُمسرح عليكم».
ويرى أنه تجب إعادة هيكلة المؤسسة المسرحية باحتضان تجارب واعدة وجديدة ودعمها مالياً وتشجيع ما يعرف «بالراعي» على دعم الأعمال المسرحية المميزة وذلك بإعفائه من الضرائب كما تفعل الدول المتقدمة، وإنشاء ثقافة مسرحية كمادة التربية المسرحية في المدارس، وهي فرصة أيضاً لتشغيل خريجي النقد المسرحي وبعض الخريجين غير المحظوظين في التلفزيون من خلال تخصيص حصة تلفزيونية للحديث عن المسرح، وعرض المسرحيات المميزة وليس كتلك المسرحيات المصرية الهابطة، وذلك لتربية ذائقة مسرحية محترمة، ويطالب مرزوقي وزارة الثقافة المبادرة لشراء عروض مسرحية كما تفعل تونس من المسرح الخاص، أي الدفع سلفاً للمسرح الخاص لتمكينه من الاستمرار
مملكة الوهم
أما المخرج محمود خضور فيقول: إنه سؤال صعب في زمن ضاعت فيه كل القيم الفكرية والاجتماعية والأخلاقية، والمسرح نقيض الحياة التي تجتاحنا، وتعبث فينا، لأن المسرح قيمة جمالية وفنية وأخلاقية، يعبر عن الحياة بكل أبعادها، إضافة إلى أنه فن المتعة اللذيذة ومملكة الروائع، ومملكة الوهم الجميل، إنه حدث.. ورؤية.. وأسلوب حياة.
ويضيف: مع ولادة المسرح اليوناني الذي مازال حاضراً كان المتفرج يذهب إلى المسارح مع زوادته لحضور عرض مسرحي، يقدم له المتعة والفكرة، والمسارح اليونانية مازالت حاضرة نصاً وعمراناً، ومن ثم حاول الإنسان تحديث الخشبة المسرحية والعرض المسرحي، وكثرت الزخرفات العمرانية والمسرحية، وهذا برأيه ما أساء لواقع المسرح الذي يحدد بالفرجة.
بدوره يرى الناقد والمؤلف المسرحي جوان جان أن جمهور المسرح بمفهومه العام لم يغادر صالات المسارح حتى يعود إليها، ويقول: علينا هنا أن ننتبه إلى أن جمهور المسرح في سورية لم يكن في يوم من الأيام جمهوراً واسعاً بالمعنى المتعارف عليه في الدول التي تشهد حراكاً مسرحياً متعاظماً كالولايات المتحدة والدول الأوروبية وروسيا، بل ومصر أيضاً، حيث تشهد الحياة المسرحية في هذه الدول كثافة عددية تتيح للمتفرج العديد من الخيارات اليومية للمتابعة وعلى مدار السنة وفي مختلف الأماكن، في وسط المدن كما في الأطراف.. أما في سورية فوضع المسرح مختلف تماماً، فهو محصور في وسط المدينة، وعدد عروضه محدود مهما اجتهد المسرحيون ومؤسستهم، وتالياً فإن جمهوره محدود دوماً
مرزوقي: مازلت متمسكاً بمقولة كيفما كنتم يُمسرح عليكم
.
فضاءات مسرحية
وعن سبل عودة الجمهور إلى المسرح تقول الدكتورة ميسون علي: علينا اليوم مراجعة فهمنا للمسرح، لغته وإمكاناته في التعبير عن الحياة والمجتمع، وإعادة النظر في بُناه الإنتاجية وعلاقته مع المتلقي، وهذا يستند إلى مرفقين أساسيين: هما فهم لهذا المتلقي من حيث بنيته الاجتماعية الثقافية والفنية، تحت مؤثرات الأوضاع والتطورات التي نمر بها، لكي ندرك ما الذي يهم هذا المتلقي؟ وضعه داخل العملية المسرحية وآلية استقباله؟ والجيل المسرحي الشاب القادر على النهوض بالمسؤولية، والذي يُفترض أن يتخطى المرحلة السابقة يجب أن يُعطى الفرص ليتمكن من بناء علاقة حقيقية فعَالة مع الجمهور، و تقديم الجديد له، ونشير في هذا السياق إلى ضرورة إيجاد فضاءات مسرحية جديدة، والفضاء هنا ليس بمعنى مكان العرض فقط، إنما فضاء ثقافي للقاء والحوار، فعلى الرغم من كل الثورات التكنولوجية يبقى المسرح مكاناً لا يُضاهى، يكسر فيه المتفرج وحدته ويتأمل شرطه الوجودي والإنساني، كما إن المسرح يعلّم المتلقي غنى الحوار وتعدّد مستوياته، ولإعادة ثقة الجمهور بالمسرح، بالمعنى الواسع للكلمة، لا بد من التغيير في البُنى والوسائل المرتبطة بعملية الإنتاج، وفي التعامل مع الجمهور المتغيَر مع التطورات الجارية في المجتمع، وتشير أخيراً إلى أن الحل ليس واحداً ولا جاهزاً، إنه محصلة كل التجارب الجادَة التي تحمل هذا القلق، وتحاول الإجابة عليه.
أما المخرج حكيم مرزوقي فيرى أن عودة المتفرج الى الصالة المسرحية مرتبطة بعودة العرض المسرحي أولاً، ويقصد بالعرض «العمل الجيد»، الذي بإمكانه نفض الغبار السميك عن كراسي المسرح، ويقول: لا تسأليني ما هو مفهوم العرض الجيد، لست أدري، العهدة عند المتلقي، ثم هناك حقيقة يجب أن نقر بها نحن العرب ألا وهي أن المسرح ليس من أولوياتنا أو اهتماماتنا اليومية، فتذكرة العرض المسرحي لا تعادل جرة الغاز أو ربطة الخبز.
ويشير إلى أن ما حدث في ايطاليا مثلاً منذ سنين طويلة حين عرض المسرحي «ألبير أندلو» مسرحية ست شخصيات تبحث عن مؤلف»، وكسر فيها الذائقة العامة المعتادة للمتلقي، عندها حاصره الجمهور واضطر للخروج من البوابة الخلفية.. هذا يعني أن المسرح يعنيهم كخبز يومي.
زمن الانهيارات
من جهته يشير خضورإلى أن ولادة المسرح السوري كانت في بدايات النصف الثاني من القرن الماضي، حيث اعتمد على نصوص أجنبية كوميدية لجذب المتفرج الذي هو بحاجة للابتسامة، إلى أن بدأت ولادة النص المسرحي السوري، وبدأ تسييّس النص، إضافة إلى أنه أصبح حسب رؤية ومزاجية كل وزير يأتي، واكتفت وزارة الثقافة بافتتاح صالتين فقط هما (الحمرا والقباني)، من دون أن تهيئ لهما المستلزمات الحقيقية التي تليق بالمسرح وتحديد العروض المسرحية كل سنة، وبرأي خضور هذه من أهم الأسباب التي أدت إلى تراجع المسرح ومن ثم الحضور المسرحي، على الرغم من ادعاء بعض الوزراء بأن المسرح هو جزء من همهم الثقافي، مترجمين ادعاءهم هذا بإقامة مهرجان دمشق للفنون المسرحية، الذي وبكل أسف اقتصر نشاطه المسرحي على فترة المهرجان والمواسم المسرحية في العاصمة فقط لدرجة أصبح حلم أي مخرج هاو أو محترف في أي مدينة سورية أن يقدم عرضه في دمشق من أجل الشهرة، ومع تطور التقنيات والتلفزيون والموبايل والإعلام أصبح بمقدرة أي شخص مشاهدة العرض المسرحي الممتع له، ولم يعد يهمه إن كان سورياً أو عربياً لكنه أصبح يحلم بأبعد من ذلك.
ويعتقد خضور بأنه ليس باستطاعة وزارة الثقافة أو أي جهة فنية إعادة المسرح إلى حياته الطبيعية في هذا الزمن المملوء بكل أنواع الفرجة التي تمتع الإنسان إضافة إلى عامل مهم وهو أن القادم للعمل في المسرح ممثلاً كان أم مخرجاً فهو يعمل من أجل المادة فقط، ولا تهمه التقييمات الفنية والفكرية، ونحن الآن في زمن الانهيارات الفكرية والأخلاقية والجمالية للمسرح، آمل أن تعاد الحياة للمسرح رغم اعتقادي بصعوبة هذه العودة.
كائنات هلامية
غير أن المسألة وما فيها - كما يرى الناقد جوان جان- أن جمهور المسرح قد يتزايد أحياناً إذا توفرت للعرض المسرحي شروط، منها الدعاية الإعلامية القوية، والسمعة الجيدة لأصحاب العمل المسرحي من كاتب وممثل ومخرج، إضافة إلى مضمون العمل الذي إما أن يجذب خلال أيام العرض المزيد من المشاهدين من خلال ما يتداوله مشاهدو العرض في الأيام الأولى فيشجعون غيرهم على حضوره، أو أن يترك انطباعاً سيئاً عند مشاهدي العرض في أيامه الأولى ما ينعكس سلباً على الحضور الجماهيري، ويشير إلى أن الكثير من جمهورنا غير المهتم بمتابعة العروض المسرحية مهما كان مستواها يعتمد على آراء من سبقه في المشاهدة، فإن كانت الآراء إيجابية تجشع للحضور، وإن لم تكن.. استنكف وتجاهل.. ويضيف: ليس جديداً قولنا: إن الجمهور الواسع يتجاوب مع الأعمال التي يرى في شخصياتها وأحداثها نفسه، وينأى عن الأعمال البعيدة عن اهتماماته ويومياته، لذلك فإن ذاكرة الجمهور تحتفظ اليوم بالأعمال ذات الطابع الاجتماعي الحميم، وتتناسى تلك الأعمال التي تقدم عوالم بعيدة عن عوالم ناسنا ومجتمعنا من دون التقليل بالطبع من أهمية النصوص والعروض الخاصة بتلك الأعمال، لذلك إذا أراد مسرحيونا أن يكسبوا جمهوراً متزايداً عليهم أن يأخذوا هذه النقطة بالحسبان وألا يتناسوا أن المتلقي طرف أساسي في العرض المسرحي وليس طرفاً ثانوياً.. ويجب ألا ننسى في إطار حديثنا عن جمهور المسرح أن الظروف العامة تلعب دورها السلبي أو الإيجابي في الإقبال على الأعمال المسرحية والنشاطات الثقافية، لافتاً إلى أن ما شهده العالم العربي في السنة الأخيرة قد أثّر سلباً على مجمل النشاط المسرحي والثقافي.