بسم الله الرحمان الرحيم :
المسرح العربي والسيرة الشعبية
الحديث عن المسرح العربي وما يتفرع عنه ليس حديثاً سهل اًنظراًلقلة المراجع والمصادر وندرة الوثائق،وسبب ذلك بلا شك يعود إلى الشقة الزمنية التي تفصل الدارس عن تلك الفترة والجو اللذين نشأ فيهما المسرح العربي واستمر،فانطمست تلك المعالم في خضم الأوضاع الحياتية المضطربة وفي زوايا الإهمال والنسيان.
ولعل أهم إشكاليات المسرح العربي حالياً هي البحث عن هوية خاصة ومحاولة تأصيل هذا الفن الوافد،وإذا كان الكتّاب والباحثون والمنظِّرون قد أمضوا زمناً طويلاً في الوصول إلى شكل عربي للمسرح، سواء عبر النص أو البيانات، أو عبر أشكال مسرحية متعددة منها: السامر، الحكواتي، البساط، الفرجة والاحتفالية،وغيرها،فإن استلهام التراث الشعبي كان أحد الحلول المناسبة في زمنها، وكان ذلك جزءاً من الإجابة على السؤال المطروح وهو:"كيف نستنبت فناً غريباً أو غير معروف سابقاً في بيئة مختلفة ومغايرة حيث يبدو هذا الفن وكأنه نتاج أصيل نابع من هذه البيئة بالذات؟"ولهذا كان لا بد من اختيار فن يكون قريباً من نفوس المتفرجين في هذه البيئة، وبالتالي يمكن أن يتجاوب معه الجمهور العربي.
وموضوع العودة إلى التراث وخاصةالسيرة الشعبية بدأ مع الرواد الأوائل الذين لم يألوا جهداً في محاولة إيجاد الطرق العديدة لتأصيل المسرح العربي للتخفيف من غربة هذا الفن وتحقيق صياغة "السبيكة العربية" على حد تعبير مارون النقاش.
فالسيرة الشعبية إذاً هي أحد العناصر التي استفاد منها المسرح العربي في بداياته،وما زال موضوع البحث عن شكل للمسرح العربي قائماً.
خلال أربعة قرون متتالية كانت الأقطار العربية ترزح تحت نير الاحتلال العثماني، وكانت تعاني من العزلة السياسية، سيما بعد انتقال العاصمة إلى خارج البلاد مما حال دون اطلاعها على الحضارة الغربية والإفادة من منجزاتها العلمية مبكراً، وكانتمن نتيجة هذه العزلة إصابةالبلاد بعزلة شاملة لم تتح الفرصة للعرب كي يستفيدوا من المنجزات المادية والفكرية للحضارة الغربية، مما أدى إلى تردي الأوضاع وسوء الأحوال،فخيّم الجمود العقلي على العلماء، وأُهمِل العلم والتعليم،ولكن الامبراطورية العثمانية بدأت مع الزمن تتحلل وتتفكك، وبدأت تتبدد ملامح الظلام والقهر.
ومع مرور الوقت بدأ ظهور الحركات التنويرية في سورية،واشتد النضال القومي التحرري، وبدأ تشكل الوعي،وليس المسرح إلا أحد أشكال هذا الوعي،وسوف يؤدي تفاعل الثقافتين العربية والأوربية على التربة العربية إلى ازدهار التجارة وتبادل الزيارات بين العرب والأجانب،وستكون النتيجة حمل المسرح إلينا.
وإذا كنافي العالم العربي قد عرفنا ألواناً من الملاهي الشعبية قبل الحملة الفرنسية على مصر مثل خيال الظل والأراجوز وألواناً من الفن الشعبي رغم أثرها الضئيل في المتفرج العربي فإن حملة بونابرت شجعت الحفلات الموسيقية والتمثيل والمسرح.. يقول جرجي زيدان:
"أما التمثيل كما هو عند الإفرنج لهذا العهد فقد جاءنا في جملة أسباب المدنية الحديثة، حمله بونابرت معه عند قدومه إلى مصر في جملة ما حمله من بذور هذه المدنية كالطباعة والصحافة..."(1) .
ولقد شهدت مصر آنذاك روايات فرنسية، وقد استمر الاهتمام بالمسرح مع تزايد الأجانب في مصر في عهد محمد علي،وبدأت المسارح بالازدياد،وكذلك بدأ الهواة ينظِّمون نشاطهم وسط تشجيع الجمهور وإقباله.
ثم أتتالفرق والإرساليات والبعثات التبشيرية التي حملت معها المطابع في القرن الثامن عشر إلى بيروت ودمشق،وقدم الطلبة في مدارسهم مسرحيات باللغة الأجنبية والعربية لأهداف دينية وأخلاقية وتربوية وثقافية،وسافر العديد من العرب إلى أوروبا واكتسبواحب الفنون الدرامية،وهكذا نشطت الترجمة والطباعة والصحافة والجمعيات والنوادي العلمية والأدبية والفنية.. وهكذا نشط المسرح.
وفي محاولة للتوفيق بين الثقافتين الشرقية والغربية حافظ العرب على عاداتهم وبعث ثقافة القرون الوسطى(2) كما وجهوا انتباههم إلى التاريخ العربي،وفي ذلك تجلّت رغبتهم في أن يواجهوا تغلغل النفوذ والعادات الأوروبية الغربية وفي أن يكسبوا تأييد ذوي النفوذ في النضال من أجل قيمهم العليا.
وكان رجال المسرح فصيلاً من هؤلاء المتنورين الذين توغلوا في التاريخ العربي الوسيط ليستخدموا أمثلة من هذا التاريخ من القرآن والشعر العربي والأقوال المأثورة وغيرها.
"لقد اقتبست البرجوازية المتوسطة على وجه التحديد الشكل المسرحي عن الغرب، ثم أدخلته إلى العالم العربي لتتخذ منه وسيلة للتعبير عن مطامحها،فعنيت بالجانب التعليمي، ولم تهمل الجانب الترفيهي.. وكان تأثير الغرب عليهم كبيراً في هذا المضمار.. ولقد اتجه أولئك الذين التزموا جانب الحذر في تعاملهم مع الحضارة الغربية إلى التراث الشعبي وإلى التاريخ، يستمدون منهما موضوعات مسرحياتهم"(3) .
وكانوا يرون ضالتهم المنشودة في الأدب القديم: "إن عطش رجال الثقافة إلى بعث الثقافة العربية القديمة ومناهضة الخرافات الدينية وتشجيع اتجاهات جديدة في الأدب وإدخال الأفكار التنويرية كان كبيراً جداً"(4) .
لقد استُخدِم المسرح كأداة في مناهضة الإقطاعية وضرب سيطرتها وفي تحرير الأذهان من تصوراتها ومفاهيمها "كان رد فعل الطبقة الإقطاعية عنيفاً، قوياً، يتوافق ومدى إحساس هذه الطبقة بالخطر الذي يمثله المسرح على مصالحها وامتيازاتها،ولذلك لم تتورع عن ملاحقة أحد الرواد القباني وغيره بالاضطهاد والتشهير، مطالبة السلطان بتحريم التمثيل واعتباره بدعة استُحدِثت في الإسلام"(5) .
كانت الطبقات المحافظة لا تخشى المسرح بقدر خشيتها من دعوات الإصلاح والتغيير وما تمثله من قيم ومفاهيم جديدة هدفها تثقيف الجمهور وتعليمه، ثم تهيئة الجو المناسب لضرب العلاقات القائمة(6) .
وبالنتيجة ترتب على هذا كله أن "الطبقات المحافظة كانت تهادن المسرح ما دام يقدم للجمهور التسلية والمتعة،وأما حين كان يتعرض لقضايا وأمور تمس مصالح الطبقات من قريب أو بعيد فإنها كانت تحاربه بشراسة وضراوة"(7) .
إن تراث هؤلاء الرواد –وهم من الطبقة البرجوازية المتوسطة- لم يخلُمن تصورات فكرية معينة،تركت آثارها في الإنتاج المسرحي عند الرواد الأوائل،فهذه "طبقة إصلاحية لم ترفض الواقع الحضاري الذي نشأت في رحابه، بل عملت على تطويره وإصلاحه، مسترشدة بقيم مقتبسة من الحضارة الأوروبية من ناحية، وبمُثُل مستمدة من منابع التراث الأصيل من ناحية ثانية"(
.
والواقع أن نمو الروح القومية كان له الأثر الأكبر في العودة للسيرة الشعبية والاقتباس منها،وليست العودة إلى السيرة هروباً من القمع والحاضر تماماً، بل نوع من الطمأنينة للتراث القومي، ونوع اللجوء إلى التراث لمواجهة الغرب، حتى وإن كان في جانب منه استغراق في عالم وهمي، تعويضي وفّرته تلك الآثار الشعبية،وقد يكون ذلك "خوفاً من السلطة لأنها تمولهم،والمسرح بلا مال ولا حماية لا يمكن أن يستمر"(9).
ولعل تلك الطريقة التعويضية، المقنّعة، قد دفعت الجمهور كي يقبل على الأدب الشعبي والشغف به والاستكانة إلى ما ينطوي عليه من أحلام مهدئة، مخدرة تنطوي على رجاء كبير.
لقد كان الأدب الشعبي هو البديل الخيالي للطموحات،وفي ذلك تكمن طاقاته الدرامية الخصبة، وأهميته التمثيلية دليل على الصراع الحاد بين الواقع والخيال، أو بين الحقيقة والحلم.
أضف إلى هذا أن "هذه السير شكلت ينبوعاً ثراً، مؤهلاً لأن يمد الكاتب المسرحي بخامات أولية، لها من الحيوية والبعد الإنساني ما يضمن خلقها مسرحيات ناجحة معقولة"(10) .
كان الكاتب يرى في السيرة مادة قريبة من متفرجيه،فهو يرمي إما لتقديم صورة بديلة مستترة عن الواقع،أو لأن في السيرة محاور التقاء مع الواقع،أو كلا الاثنين،حيث يبرز البطل المنقذ الذي يزود عن الدين والبلاد ضد الأعداء الخارجيين والداخليين.
حملت السيرة الشعبية تطلعات الطبقة الوسطى وآمال الطبقات الشعبية في إيجاد المجتمع البديل،لذلك فالسيرة هي مصدر مهم من مصادر المؤلفين المسرحيين.
والسيرة الشعبية عبارة عن حكايات وقصص نثرية طويلة، تتحدث عن البطولات ويتناقلها الشعراء الجوالون والحكواتية،وتعود هذه السيرة إلى العصر الجاهلي، ولكنها لم تتضح إلا في القرن الرابع الهجري،وقد ساهم في تأليفها أكثر من مؤلف واحد في أكثر من زمن واحد، إلى أن أخذت شكلها المعروف، حيث كان التلميذ يحفظها عن شيخه، وتُدرس على أنها نص شعبي حي.
وأما قصص السيرة فهي قصص تاريخية أقرب إلى الملاحم،تنشد ما يجب أن يكون، وهي دائماً تنزع إلى التخصيص والتفصيل،والسيرة تتعلق بوجدان الفرد والجماعة، وهي صورة الشعب التي تحكي ملامحه وقسماته.
ويُعتبر مارون النقاش(11) أول من جلب المسرح للوطن العربي، وأول من استقى من التراث الشعبي،وكانت إحدى غاياته من وراء ذلك أن يبرز للشعب (مرسحاً أدبياً وذهباً إفرنجياً مسبوكاً عربياً) .
وقد قام مارون بتأليف مسرحيته "أبو الحسن المغفل"أو "هارون الرشيد" عام 1849 بعد مسرحيته الأولى "البخيل" ودعي إلى مسرحية "أبو الحسن المغفل" الكثير من الشخصيات البارزة،العربية والأجنبية،وقُدمت في دار المؤلف ببيروت.
وتُعتبر مسرحية "أبو الحسن المغفل" أول عمل مسرحي يقتبس من السيرة،وتحديداً من سيرة "ألف ليلة وليلة" فهذه السيرة هي مثل السير الأخرى، تتوزع لمجموعة أقاصيص نشأت في أمكنة مختلفة وأزمنة متباعدة،جمعها المؤلفون عن ألسنة الشعب،ويبلغ عدد حكاياتها 264 حكاية، تتناول الجوانب المختلفة للبيئة العربية آنذاك من عدل وظلم،وتتعرض لذكر الأوضاع التجارية والصناعية،وتصور الأعياد والمواسم، وتصف بدقة بيوت اللهو والغناء والجواري الجميلات،وقد أخذ النقاش مسرحيته عن الليلة الثالثة والخمسين بعد المئة، واسمها "حكاية النائم واليقظان".. وملخص القصة كما ورد في سيرة "ألف ليلة وليلة" يدور حول شخص يدعى أبو الحسن، يحلم بأن يصبح خليفة ليقّوم كل مُعوج،وحينما يسمع الخليفة الرشيد بهذه الأمنية يحضر معه سيافه متنكراً ويغري أبا الحسن ويضع له مخدراً، ثم يصير خليفة ليوم واحد، ورغم أن الخليفة يعيده لرشده إلا أن أبا الحسن يبقى ضمن حلمه، لا يصدق ما يحدث، ويصر على أنه خليفة، لدرجة أنه يقدم على ضرب والدته"ثم يدرك أنه لم يستطع تحقيق آماله،وأن مظاهر الملك لا تخلو من الضجيج والصخب، وقد اختلطت عليه الأمور حتى بات لا يميز بين الطيب والزائف"(12) .
وأما المسرحية فتبدأ مع أبي الحسن الذي يتمنى أن يصبح خليفة كي يقضي على حساده، ويعد خادمه أن يجعله وزيراً..وهو يحب دعداً شقيقة عثمان، لكن عثمانبالمقابل يريد سلمى ابنة أبي الحسن، وسلمى تحب عثمان، في حين أن دعداً لا تطيق أبا الحسن، ولكنها تعمل لصالح شقيقها، وأما سعيد شقيقأبي الحسن فهو الآخر يحب دعداً ويتآمر مع الخليفة المتنكر ويأخذ عقداً ذهبياً من أخيه أبي الحسن لقاء تخلي سعيد عن دعد بحجة أنه أبو الحسن –بذر أموال أبيه- والمفروض أن تكون دعد لسعيد لأن أبا الحسن سبق وتزوج من قبل، وهنا يلجأ الخليفة لدسيسة يطلع عليها خادم أبي الحسن وهي أن يجعلوا من أبي الحسن خليفة ليوم وليلة،ويخاف الخادم عرقوب من دادا مصطفى الذي يخبره أنه نديم من ندماء الخليفة، وتصدر بعد حين إرادة سلطانية تأمر بالقضاء على الشيخ طه ورفاقه وبعدم زواج عرقوب أو سعيد من دعد، ويأتي الخليفة متنكراً على أنه يقرأ الغيب ويبين لأبي الحسن أن ملك العجم يستعد للهجوم عليه،وهنا يتنكر الخليفة بثياب نسائية ويحاول الاختفاء،لكن المآدب الشهية والحسان يسلبن لبّه، فيبقى في القصر، ثم يتفق مع عثمان على كتابة كتابيهما على كل من سلمى ودعد مع الوزير جعفر،وأما أبو الحسن فغرق في لعبة الخلافة ولم يعد يفرق بين السحر والواقع،لدرجة أنه أحب جارية داخل القصر..وفي النهاية يكشف له عرقوب الأمر وأن المسألة كلها مجرد لعبة كان الخليفة يراقبها كي يتمتع ويسر عن نفسه..وهكذا يتزوج سعيد دعداً،وعثمان سلمى، ويذهب كل في سبيله.
إن مقارنة بين القصة الأصلية والمسرحية تبين لنا أن المؤلف لم يلتزم تلك الحبكة الساذجة،ولم يتقيد بالحوادث المحدودة، بل أفاض بالتنويه بحياة أبي الحسن ومشكلاته الشخصية،فهو أرق ويتمنى الوصول لسدة العرش لكي يقضي على الشيخ طه ورفاقه ويحسن وضعه..أضف إلى ذلك الموضوع الجديد الذي ابتكره وهو حب أبي الحسن لدعد، وتنافس شقيقه سعيد عليها، ثم إن أبا الحسن في "ألف ليلة وليلة" متذمر، ينشد الحق،على حينهوهنا رجل ساذج، يعيش في الحلم،ورغم أنه يحاول إحقاق الحق في المسرحية، لكنه يظن أن الخلافة أمر سهل،فيتمادى بحلمه وتغشي عينيه ملذات السلطة.
وفي "ألف ليلة وليلة" لا يبدو أبو الحسن مغفلاً كما في المسرحية،فهو يبدو شخصية مضحكة، مغفلة،يمكن الضحك عليه واستغفاله من قبل الشخصيات الأخرى أمثال الخليفة ووزيره.
إن التضاد واضح بين عالم اليقظة وعالم الحلم،فهذا الرجل المغفل أبو الحسن يعيش واقعاً مؤلماً يحلم بتغييره نحو الأفضل،لكنه حين يصل إلى سدة العرش تختلط عليه الأمور فلم يعد يستطع التمييز بين الأشياء،وقد يبرر عدم وضوح شخصية أبي الحسن المغفل هو أن المؤلف أراد للمسرحية أن تكون رواية مضحكة كما عنونَها،وقد قسم المؤلف مسرحيته لخمسة فصول،والفصول لأجزاء حسب دخول وخروج الشخصيات،وترك فجوات وهوامش للإخراج،وهذه خطوة رائدة،فالوصف عنده مفتوح كوصفه لبيت أبي الحسن مثلاً.
مثال آخر، عندما يصف عثمان سعيداً لأخته دعد، يقول لها: "هكذا وحياة عينيك، غير أنه لا يظهر غرامه،بل إنه من حسن أخلاقه يخفي هيامه،فهو شاب ذو طباع حميدة،ومن جملة خصاله الفريدة أنه..."(13) نقاط متعددة،ويتكرر ذلك في كثير من الصفحات،ويمكن للمخرج ملء هذه الفراغات، يساعده على ذلك تلك اللغة البسيطة التي يكتب بها المؤلف.
ويعتمد النص أحياناً على الحيلة مثل محاولة بكاء سعيد مستعطفاً أخاه أباه الحسن،وبما أن المسرحية مضحكة فإن الضحك يتوزع على النص منذ البداية تقريباً حين يستقبل أبو الحسن ضيفيه من أجل نقودهما، والحقيقة أنه يكرههما، ويلجأ المؤلف إلى استخدام عبارات مضحكة مثل "عنتر عليه السلام" وحين تقول دعد لعثمان: "إن محموداً يحب أبا الحسن" يقول جعفر: "أحبه مثل سبيع الملقب بذي الخمار" فيرد أبو الحسن على الخليفة مؤكداً : "السبع المعرقب بذي الحمار" وهذا تلاعب بالألفاظ.
ثم هناك لحظات سكر أبي الحسن،وقبول عرقوب بالنقودحتى ولو قتلوا سيده،وفعل العض.. إلخ..وقد استخدم المؤلف أحياناً الحديث الجانبي مثل حديث دعد لذاتها: "آه.. آه..ماشاالله (ضاحكة)"(14) وأبو الحسن حين يترك دعد وعثمان لوحدهما: "أودعتهما في القاعة وقلت لهما أغيب ربع ساعة،والحال أني لا أتزعزع من هنا ما دامت عندي دعد مجلبة الشفا والهنا لأنني إذ وعدتها أن أشفى من المرض،فالحال ظهر مرضي الخفي وتأكدت أنه عرض.. إلخ"(15) .
ويستخدم المؤلف كذلك المونولوج كمافي الجزء الحادي عشر من الفصل الأولحيننجد عرقوب يتحدث لنفسه: "يا ترى من منا يضحك على رفيقه أكثر.. أظنني أنا الرابح عليهم من الأصغر إلى الأكبر لأنني أساير الجميع،لكل واحد على مرامه،وأتفهم بعطاياه وأنعامه،وحينما يطربون أطرب معهم،وحيثما يذهبون أكن معهم.. يجبأن أقابل سعيد وسلمى لأخبرهما بما حصل بهذه البرهة لكي أنال منهما (مشيراً إلىالدراهم) ها هي معلمتي سلمى بغير شبه.. ها هو معلمي سعيد، كل منهما آت من جهة"(16) .
وتتكشف الأحداث تدريجياً،ويستخدم المؤلف الجوقة ككومبارس لتحية الخليفة،والخليفة هنا هو أبو الحسن:
"أين مولانا المجيد.. صاحب الملك الوحيد.. له الطعام تهيّا.. في صفرة كالثريّا".
أبو خليل القباني(17) هو الآخر حاول اقتباس بعض موضوعاته من التراث، وحاول أن يقدم من خلال تلك الموضوعات صورة عالَم مثالي، تتحقق من خلاله المساواة والعدالة"وبهذا تدور في فلك الفنون الشعبية المستقاة منها، ولا تخرج عن النطاق الذي رسمته تلك الفنون للمشكلتين الاجتماعية والسياسية، ولا عن الحلول التي أوجدتها"(18) .
كتب أبو خليل القباني مسرحية "هارون الرشيد مع أنس الجليس" مقتبساً موضوعها من الليلة الخامسة والأربعين من سيرة "ألف ليلة وليلة"واقتفى فيها آثار سلفه مارون النقاش.
تدور المسرحية حول الجارية أنس الجليس التي اشتراها الفضل ابن خاقان ليهديها إلى سيده ابن سليمان، ولكنابنه علياًًنور الدين أحب الجارية وطلب من أبيه أن يبقيها له وألا يأخذها إلى سيده ابن سليمان، ويعلم المعين بن ساوى بالأمر، وهو زميل الفضل وحاسده على حظوته عند ابن سليمان، فيذهب إليه ليوغر صدره على الفضل،ويهرب علي نور الدين بالجارية إلى بستان قصر الرشيد، فيستقبلهما خادم القصر ويجلس معهما، فيسمرون ويتنادمون، ويحضر الخليفة الرشيد ويعلم بقصة علي نور الدين مع الجارية فيعطيه كتاباً لابن سليمان يأمره فيه برفع الظلم عن علي، وما إن يصل إليه علي ومعه الكتاب حتى يجد عنده المعين بن ساوى، فيشككه بأمر هذا الكتاب، ويبرز له كتاباً آخر يأمر فيه الرشيد بقتل الفضل وابنه، وما أن يهمّ سليمان بتنفيذ ما جاء في الكتاب المزوّر حتى يعلم أن المعين كاذب، مزوِّر، ويعلم الرشيد بالأمر فيأمر بسجن ابن سليمان والمعين ومكافأة الفضل وولده وتحقيق أمنية علي في الزواج من الجارية الحسناء أنس الجليس .
لا تختلف المسرحية عن القصة الأصلية كثيراً، فالمسرحية تبدأ عندما يحاول الفضل إهداء الجارية أنس الجليس للخليفة، ثم تتطور الأمور عندما يحب علي أنس الجليس، وتتأزم المسرحية بمؤامرة ابن ساوى مع ابن سليمان وتنحلّ بقتل الغرماء ومكافأة العاشقَين، وهكذا يتم تصوير متاعب المحبين ونتيجة الحسد والبغضاء، لنتلمّس معالم حبكة بسيطة ساذجة ومحددة بالسرد، وهذا نتيجة التأثر بجو الحكاية الأصلية، كما أن الصراع متواضع يتمثّل في الحظوة عند الخليفة بين الفضل وولده، وابن ساوى وابن سليمان على الطرف الآخر .
أما الحوار فسعى ليخدم هذه الحبكة العادية ويطور الأحداث بشكل بطيء، ويكشف الحوار جوانب بعض الشخصيات مثل علي الذي هام بأنس الجليس غراماً، وابن ساوى الغريم المتآمر الذي حاول الإيقاع بالفضل وابنه.. كل ذلك من خلال لغة شعرية نثرية حاول الكاتب فيها أن يحافظ على جو القصة الأصلي.
شخصياتالمسرحيةتنقسم إلى محور علي وأنس والفضل والخليفة، ومحور ابن ساوى وابن سليمان،وتتطور شخصية علي المحب ببطء، وتظهر شخصيتهصراعه الداخلي في السعي للفوز بحبيبته والتخلص من الحساد،أما الصراع الخارجي فيتمثل مع المحور الآخر الذي دأب فيالسعي للنيل من الفضل وولده.
ولما كانت الفنون الشعبية محاولة لحل المشكلتين الاجتماعية والسياسية حلاً مثالياً، إما عن طريق خلق عالم وهمي تعويضي، أو تخفياً تحت هذا النوع من المسرحيات فإن المسرحيات التي استمِدت من التراث الشعبي كانت استجابة أمينة للواقع الاجتماعي القائم.
"لقد كانت الطبقة الفنية المحافظة تسيطر على السلطة وترفض قيمها ومثلها وعاداتها،غير أن التغيير الذي أصاب بنية المجتمع في القرن التاسع عشر جعل البرجوازية المتوسطة تحاول أن تحقق نوعاً من الإصلاح يستهدف خلق الوسيلة الكفيلة بإيصالها إلى المشاركة في الحكم وإيجاد الحل الملائم لقضية العدالة المفقودة"(19) .
وكما يتضح هنا فإن الحل في المسرحية مثالي، يحاول الإيهام بعالم خيالي،والمضمون الفكري ليس جديداً، بل هو أصيل في تراثنا،فالبحث عن العدالة والمساواة في المجتمع،والتطلع إلى الخلاص من عسف الحاكم وظلمه، والسعي إلى تأكيد حرية الإنسان، خاصة فيما يتعلق بقضايا الحب والزواج وغير ذلك، أمور ومشاكل حظيت بعناية الموروث الشعبي الذي جهد في سبيل الوصول إلى حل مناسب.
ويستخدم القباني في مسرحيته هذه المونولوج والجوقة في مدح الوالي، وهناكاهتمام واضح بالأغاني والموشحات والشعر،ويختتم المؤلف (الرواية)بنشيد مدح للخديوي عباس مع عدة أدوار غنائية.
ويعود القباني إلى "ألف ليلة وليلة" ليقتبس منها مسرحية "هارون الرشيد مع الأمير غانم بن أيوب وقوت القلوب" وهذه الحكاية رويتْأحداثها في الليلة الثانية والخمسين، وهي تدورحول جارية كانت لدى الرشيد، وكانت موضع حبه واهتمامه، حتى ضاقت بها زبيدة زوجته، فأمرت بإبعادها عنه، واستعانت على ذلك بعجوز شمطاء ماكرة، ثم أوهمت الرشيد أن الجارية قوت القلوب قد ماتت، ولم تكن هذههيالحقيقة،فقد خُدِّرت الجارية، ثم ألقيت في قبر مهجور، حيث عثر عليها غانم ابن أيوب التاجر الدمشقي الذي جاء بغداد ابتغاء توسيع رزقه،فيحمل غانم الجارية إلى بيته ويرعاها ويحنو عليها، حتى إذا ما أراد منها وصلاً صدّته برفق،ثم أنبأته بقصتها مع الرشيد وزبيدة.. وتسترد قوتالقلوبصحتها ونشاطها وتطلب من غانم الوصال، وهذه المرة هومنيعرض عنها،ويظلان على هذه الحال من الحرمان والرغبة حتى يكشف الرشيد حقيقة ما دبّرته حقيدة فيأمر بالقبض على غانم والجارية،فيولي غانم الأدبارخوفاً من غضب الرشيد،أما الجارية فتنقذ حياتها من يد الجلاد عندما تقص على الخليفة ما كان من عفّة غانم،فيقر الرشيد عيناً ويعفو عنها، ويسمح لها أن تبحث عن غانم،فتتنكر وتجدّفي البحث إلى أن تعثر عليه،وفي ليلة واحدة يتزوج الرشيد من أخت غانم،ويتزوج غانم من قوت القلوب، وهكذا تنتهي المسرحية المطابقة للأصل تماماً لكنهابقيت غير منطقية، فهل يعقل أن تنطلي حيلة العجوز في إخفاء قوت على الخليفةبهذه البساطة؟ من الواضح أن الهدفمن ذلكهو الإكثار من الحوادث في إطار من الأغاني والموشحات والرقصات الشعبية واستخدام عبارات من "ألف ليلة وليلة"تتصف بالركاكة .
تأثّر المؤلف كثيراً بأسلوب الحكاية الأصلية ومعالجتها للحوادث والشخصيات،فالحوادث تسير تبعاً لما تمليه اللحظة والمصادفة:رؤية غانم لقوتالقلوبفي مكان مهجور مصادفة وهيامه بها مصادفة،وكما يستخدم مشهد السجن في مسرحيته السابقة فإن ذلك يتكرر ثانيةبشكل مغاير للقصة،حيث وضعت العجوز قوتالقلوبفي مكان مظلم بأمر من الرشيد، في حين تبرز صورة المجتمع المكبوت الذي يعيش ضمن أسوار تحد من حرية الإنسان .
يتراوححوارالمسرحية بين الشعر والنثر الذي يعتمد على السرد، ويستخدم المؤلف الجِناس والعديد من الملاحظات الإخراجية،وهذه المسرحية الأخلاقية اعتمدت في قسط كبير منها على الغناء الجماعيالذييؤديه عدد من الجاريات كجوقة وغناء فردي،وهناك الحوار الجانبي واللجوء إلى استخدام التنكر (مشهد تنكر الملك) أما نهاية المسرحية ففيها العبرة الأخلاقية، بالإضافةإلى عدة أدوار في مدح السلطان عبد الحميد.
....................منقول
الهوامش:1-تاريخ آداب اللغة العربية،جرجي زيدان،بيروت، ج4 – ص149.
2-اهتمام ناصيف اليازجي آنذاك باللغة العربية ونقائها.
3-الأصول التاريخية لنشأة الدراما في الأدب العربي، سعد الدين دغمان، جامعة بيروت العربية، دار الأحد، بيروت، 1973 –ص68،69.
4-ألف عام وعام على المسرح العربي،تمارا بوتيتسيفا،ترجمة توفيق المؤذن،دار الفارابي، بيروت ط1، -ص121.
5-القصة في سورية"محاضرات عن القصة في سوريةحتى الحرب العالمية الثانية، د.شاكر مصطفى،جامعة الدول العربية،معهد الدراسات العربية العالية –الرسالة- القاهرة، 1958.
6-مثل تمثيليات عبد الله النديم التي كان لها دور محرض على صعيد التحرر، أنظر: دراسات في المسرح والسينما عند العرب،د.يعقوب لاوندا، القاهرة، 1972.
7-الأصول التاريخية لنشأة الدراما، ص71.. مصدر سابق .
8-المصدر السابق ص70.
9-ألف عام وعام على المسرح العربي، ص148..مصدر سابق .
10-الأصول التاريخية لنشأة الدراما في الأدب العربي، ص74 وما بعد.. مصدر سابق .
11-ولد مارون النقاش في صيدا عام 1817 وكان مولعاً بالآداب والعلم واللغة العربية ونظم الشعر ودراسةاللغات والموسيقى والسفر..ارتحل إلى إيطاليا، ومنها أخذ المسرح..توفي في طرسوس بتركيا عام 1855 نتيجة حمى شديدة أودت بحياته.. ومسرحياته هي "البخيل" عام 1847 "أبو الحسن المغفل" عام 1849 "السليط الحسود" عام 1851.
12-المسرحية في الأدب العربي الحديث (1847-1914) د.محمد نجم، دار الثقافة،بيروت،ط3، 1980 ص33.
13-أبو الحسن المغفل أو هارون الرشيد،مارون النقاش،ط2،المسرح العربي(1) اختيار وتقديم د.محمد يوسف نجم،بيروت،دار الثقافة،1961الفصل الأول، الجزء الرابع، ص80.
14-المصدر السابق، الفصل الأول، الجزء الثالث،ص78، يتكرر الحديث الجانبي في مواقع عديدة.
15-المصدر السابق،الفصل الأول،الجزء الخامس،ص80.
16-المصدر السابق،الجزء الحادي عشر من الفصل الأول، ص88.
17-ولد أبو خليل القباني عام 1833 بدمشق، وتوفي فيها 1903 وعمل مؤلفاً وملحناً وممثلاً وموسيقياً وشاعراً بارعاً،وكان رجل مسرح بمعنى الكلمة..آثاره المقتبسة من السيرة: الرشيد وأنس الجليس، الرشيد وقوت القلوب، الأمير محمود، عفيفة، عنترة، وضاح، ناكر الجميل.. إلخ.
18-الأصول التاريخية لنشأة الدراما في الأدب العربي، ص147..مصدر سابق .
19-الأصول التاريخية لنشأة الدراما في الأدب العربي، ص129، 130..مصدر سابق .