مدخل إلى النقد العربي القديم:
يورد الدكتور محمد عبد المطلب في كتابه (جدلية الإفراد والتركيب) في النقد العربي القديم, حديثا حول النقد القديم, إذ يؤكد بأن النقد القديم قد تطور ومرَّ بمراحل مختلفة, إذ من طبيعته المعقولية المنظمة, والحدس الدقيق... مؤمنا بتعدد الرؤى والمنهج النقدية بين الحديث والقديم.
إن العرب في جاهليتهم قد بلغوا مرحلةراقية في الأداء اللغوي , تشهد لهم بالفصاحة حتى أصبح ذلك خاصة تطلق عليهم . فلقدأصبحت الفصاحة مجالا للتفاخر فيما بينهم ...
وكان مظهر التفوق القولي لدى الجاهليين متمثلا بصورة بارزة في الشعر باعتباره ذروة الإبداع الفني ... وكان للشعراء الجاهليين مكانة عالية بين قبائلهم .. فكانت القبائل تعرف بشعرائها ... وكان ظهور شاعر في قبيلة يعد حدثا اجتماعيا هاما لديهم .
ولعل شهادة القرآن الكريم بتفوق الجاهليين فيمجال البيان من أصدق الدلائل التي لابد أن تذكر .
وهذا التفوق البياني نلتمسه فيما خلفه الجاهليون من شعر ونثر .
ونلاحظ أن هذا التفوق البياني لابد أن تصحبه مقدرة فطرية على التذوق الجمالي ... وتتبين هذه المقدرة فيما نملكه من روايات عن الآراء النقدية التي كان يصدرها بعض الجاهليين ...
ففي فطرية مدربة يعبر الوليد بن المغيرة عن مدى تذوقه لروعةالأداء القرآني بعد أن استمع لبعض منه فيقول أنه استمع من محمد كلاما ليس من كلام الإنس ولا من كلام الجن ...
وبعد وصفة لحلاوة القرآن الكريم عقد مقارنة عامة تجمع بين القرآن وغيره من ألوان الأداء الأدبي فيجعله في منزلة لا تعلوها منزلة أخرى .
فمن تلك المقارنة يتبين لنا ... أن المقارنة في جوهرها تعتمد على إدراك خواص تمكن من إصدار الحكم وتهيء لاستنباط أوجه الاتفاق والاختلاف, ومن ذلك يتبين لنا أيضا أن التذوق الجمالي لابد أن تسانده طبيعة فنية أو حاسة نقدية.
ونلتمس أيضا بذور الاتجاه النقدي في البيئة الجاهلية في عملية النقد الذاتي التي كان يقوم بها كل شاعر لنفسه ... فلقد عبر عن ذلك امرؤ القيس بقوله...
أذودالقوافي عني ذيادا ** ذياد غلام جريء جرادا
فلما كثرن وعـنينه ** تخير مـنهن شتى جيادا
فأعز لمرجانها جانبا ** وآخذ من درها المستجادا
وعن ثقافة الشاعر النقدية سواء أكانت فطرية أممكتسبة بالدربة والمران , نجد أن تلك الثقافة ليست مستقلة عن طبيعة مجتمع الشاعر وما يسوده من قيم فنية وجمالية بل هي صورة له ...
فلقد روي عن الأعشي قوله :
ونبئت قيسا ولم آته ** قد زعموا ساد أهل اليمن.
فأخذوا عليه هذا الشك الذي ظلل البيت من وراء قوله ( وقدزعموا ) فجعل مكانها ( على نأيه).
ولقد ورد إلينا قليل من أخبار مجالس النقد بالنسبة لمكانة الشعر والشعراء في تلك البيئة ... فمن هذه الروايات أن النابغة الذبياني كان يجلس مجلس القاضي في قبة حمراء بسوق عكاظ ويأتيه الشعراء يحتكمون إليه , ففضل الأعشي على حسان وفضل الخنساء على بنات جنسها .
فإن الروايات عن مجالس النقد لو صحت لكان معنى ذلك أن الجاهليين توصلوا إلى إدراك العلاقة بين اللفظ والمعنى من ناحية ثم بين اللفظ والسياق الذي يرد فيه من ناحية أخرى .
وعن غناء الشعر في البيئة الجاهلية , فقد كانت له أهمية كبرى في زيادة الإحساس بأي قلق في الموسيقى المسيطرة على البيت أو المركزة في القافية .
فلقد روي عن النابغة قوله :
أمن آل مية رائح أو مغتدي ** عجلان ذا زاد وغير مزودِ
زعم البوارح أن رحلتنا غدا ** وبذاك خبرنا الغراب الأسودَ
فهاب الناس أن يقولوا له لحنت أو أكفأت فعمدوا إلى قينة فقالوا غنيه , فلما غنته بالخفض والرفع؛ فطن, وقال :
وبذاك تنعاب الغرابِ الأسودِ .