بشرى تاكفراست
أستاذة جامعية –مراكش-المغرب
تواجهنا في البداية بعض الصعوبات في تحديد تطور مفهوم كلمة "نقد" عبر مختلف العصور، وذلك يرجع- على الأقل- إلى عاملين أساسيين:
1. أنها لم تكتسب في الاستعمال اللغوي نفس الذيوع و القيمة التي اكتسبتها كلمة " أدب "، حيث لم ترتبط بنصوص شعرية أو أقوال مأثورة – كما ارتبطت كلمة " أدب"، حتى يمكن ملاحقة تطور معانيها في الاستعمال اللغوي عبر مختلف العصور.
2. طبيعة المعاجم اللغوية القديمة والحديثة التي لا تهتم بالتأريخ للكلمة، بقدر ما تهتم بتجميع المعاني المختلفة لها.
غير أن هذا لا يمنعنا من الرجوع إلى المعاجم اللغوية والنصوص النقدية القديمة من أجل:
1. استخلاص المفاهيم التي اكتسبتها كلمة"نقد" في تطورها.
2. تحديد الفترة الزمنية التي انتقلت فيها من مجال اللغة إلى مجال النقد الأدبي، وتحديد المفهوم الذي اكتسبته في هذا الأخير.
أولا:أساس البلاغة للزمخشري (538هـ).
[ نقد: نقده الثمن، ونقده له فانتقده، ونقد النقاد الدراهم: ميز جيدها، من رديئها....و الطائر ينقد الفخ: يقره.ونقد الصبي الجوزة بأصبعه، ونقدت رأسه بأصبعي نقدة، قال خلف بن خليفة:
وأرنبة لك محمرة * تكاد تقطرها نقده.
ونقدته الحية: لذغته...]
1. المعاني التي يمكن استخلاصها من النص هي: أعطي- أخذ – ميز-اختبر-ضرب، لدغ.
ثانيا:مختار الصحاح لمحمد بن أبي بكر الرازي. (666هـ)
[نقد
نقده) الدارهم و(نقد) له الدراهم أي أعطاه إياها (فانتقدها) أي قبضها. و(نقد) الدراهم و(انتقدها)، أخرج منها الزيف.وبابهما نصر.(وناقده) ناقشه في الأمر].
2. المعاني التي يمكن استخلاصها من النص هي: أعطى – أخذ – ميز- نـاقـش.
ثالثا:لسان العرب: لا بن منظور (711هـ)
[نقد: النقد: خلاف النسيئة، و النقد والتنقاد: تمييز الدراهم وإخراج الزيف منها، أنشد سيبويه هذا البيت:
تنفي يداها الحصى في كل هاجرة * نفي الدنانير تنقاد الصياريف
وقد نقدها ينقدها نقدا، وانتقدها، وتنقدها، و نقده اياها نقدا: اعطاه. فا نتقدها أي قبضها، النقد:تمييز الدراهم وإعطاؤها إنسانا...ونقدت الدراهم وأنتقدها إذا أ خرجت منها الزيف وناقدت فلانا إذا ناقشته في الأمر...ونقد الشيء ينقده نقدا إذا نقره بأصبعه كما تنقر الجوزة...ونقد أ رنبته بأصبعه إذا ضربها قال خلف:
وأرنبة لك محمرة * تكاد تقطرها نقده
أي يشقها عن دمها.
ونقد الطائر الفخ ينقده بمنقاره أي ينقره...ونقد الطائر الحب ينقده إذا كان يلقطه واحدا واحدا...ونقد الرجل الشيء بنظره ينقده نقدا، ونقد إليه:اختلس النظر نحوه، وما زال فلان ينقد بصره إلى الشيء إذا لم يزل ينظر إليه...و في حديث أبي الدرداء أنه قال:"إن نقدت الناس نقدوك، وإن تركتهم تركوك" معنى نقدتهم أي عبتهم و اغتبتهم قابلوك بمثله... ونقدته الحية لدغته.].
* المعاني التي يمكن استخلاصها من النص: العطاء التمييز.
الأخذ – المناقشة – الضرب – الاختبار- تصويب النظر – ذكر العيوب.
رابعا: مختار القاموس:
[ ن.ق.د: النقد: خلاف النسيئة، وتمييز الدراهم وغيرها، وإعطاء النقد، وناقده: ناقشه]
* المعاني المستخلصة: العطاء – التمييز – المناقشة.
من خلال النصوص المتقدمة يمكن استخلاص المعاني التالية لكلمة نقد:
*العطاء – الأخذ – التمييز –الاختبار- تصويب النظر- الضرب – اللدغ- ذكر العيوب –المناقشة. ويتضح من ذلك أن المعنى الأول للكلمة مستمد من (نقد الدراهم) الذي تتم فيه العمليتان:الأخذ والعطاء وعن عمليتي الأخذ و العطاء نشأ تمييز ما يعطى وما يؤخذ، واختباره، و تصويب النظر إليه، وعن عملية التمييز نشأ إصدار حكم عن الشيء المميز إما بالاستحسان أو بالاستهجان، غير أن الكلمة في إطار إصدار الحكم اكتسبت مفاهيم استهجانية أكثر مما اكتسبت الاستحسانية، فتولد عن الاستهجان(اللدغ- الضرب- ذكر العيوب).
ثم انتقل المعني الأصلي للكلمة من (الأخذ و العطاء) بمفهومه المادي إلى مفهوم معنوي ودلت على (المناقشة) التي تفيد الأخذ و العطاء بين المتناقشين:
وهكذا نجد أن المعاني الأساسية للكلمة في الاستعمال اللغوي هي:
1. الأخذ و العطاء (= المناقشة)
2. التمييز (الاختبار وتصويب النظر)
3. ذكر العيوب، والإيلام (اللدغ، الضرب)
*ثم استعملت استعمالات مجازية يمكن استخلاصها من:
خامسا:أساس البلاغة للزمخشري:
ومن المجاز: هو من نقادة قومه: من خيارهم، ونقد الكلام وهو من نقدة الشعر، ونقاده... وانتقد الشعر على قائله، وهو ينقد بعينه إلى الشيء: يديم النظر إليه باختلاس، حتى لا يفطن له...].
انتقال الكلمة إلى مجال النقد الأدبي:
أولا:من أوائل النصوص النقدية التي تتضمن كلمة ( نقد، ناقد)نص لابن سلام الجمحي في كتا به طبقات فحول الشعراء يقول فيه:"...وللشعر صناعة، وثقافة يعرفه أهل العلم بها كسائر أصناف العلم و الصناعات منها ما تثقفه العين، ومنها ما تثقفه الأذن ومنها ما تثقفه اليد، و منها ما يثقفه اللسان، ومن ذلك اللؤلؤ والياقوت لا يعرف بصفة ولا وزن دون المعاينة بالبصر: ومن ذلك الجهبذة بالدينار والدرهم لا تعرف جودتهما بلون ولا بلمس و لا طرازو لا رسم ولا صفة، ويعرفه الناقد عند المعاينة فيعرف بهرجها وزائفها...وكذلك بصر، فتوصف الجارية فيقال:ناصعة اللون جيدة الشطب، معتدلة القامة، نقية الثغر، حسنة العين والأنف، جيدة النهود، ظريفة اللسان، واردة الشعر، فتكون في هذه الصفة بمائة دينار، ومائتي دينار، وتكون أخرى بألف دينار أو أكثر ولا يجد واصفها مزيدا على هذه الصفة... فكذلك الشعر يعرفه أهل العلم به".
- نلاحظ أن ابن سلام في هذا النص يستعمل كلمة الناقد، بمعناها اللغوي الذي يدل على تمييز الجيد من الرديء من الدراهم و الدنانير.
- ولم تكتسب الكلمة معناها الاصطلاحي و الفني إلا في أواخر القرن الثالث وبداية القرن الرابع خصوصا عند قدامة بن جعفر (ت 337هـ) الذي يعتبر كتابه ( نقد الشعر ) أول مصدر يحمل كلمة نقد.
ثانيا: يقول قدامة في نقد الشعر:
" العلم بالشعر ينقسم أقساما، قسم ينسب إلى علم عروضه ووزنه وقسم ينسب إلى قوافيه ومقاطعه، وقسم ينسب إلى علم غريبه ولغته، وقسم ينسب إلى علم معانيه والمقصد منه، وقسم ينسب إلى علم جيده ورديئه، وقد عني الناس بوضع الكتب في القسم الأول وما يليه إلى الرابع عناية تامة... ولم أجد أحدا وضع في نقد الشعر وتخليص جيده من رديئه كتابا، وكان الكلام عندي في هذا القسم أولى بالشعر من سائر الأقسام المعهودة".
ويستخلص من النص أن قدامة قد حدد المفهوم الاصطلاحي لكلمة نقد، الذي هو"تمييز جيد الشعر من رديئه" و الذي سيبقى هو المفهوم الشائع عند النقاد القدامى.
غير أن الاستعمال الاصطلاحي لا يبعد بالكلمة عن معناها اللغوي الأصلي،يقول بدوي طبانة في كتابه" دراسات في نقد الأدب العربي" ص 27:"إن مفهوم كلمة"النقد" في الأدب لا يبعد عن مفاهيمها اللغوية التي عرفها أصحاب اللغة الأصليون، بل إن أكثر المعاني الحقيقية يمكن أن تلحظ في هذا الاستعمال المجازي في نقد الشعر".