دة الأدب ومصير المطالعة
في معرض حديثي عن موضوع قلة القراءة التي ناقشتها وفندت أسبابها في مقالتي السابقة (المطالعة اين نحن منها.؟) تطرقت إلى أسباب عديدة ومهمة جدا كالحرية في الكتابة والحوافز المادية والمعنوية ودور دور النشر والطباعة ثم تطرقت إلى دور الأهل والدولة متمثلة بالتعليم والثقافة وانتهيت بدور المجتمع.
بعدها عدت لنفسي أسالها وماذا لو توفر للقارئ كل هذا وأحجم عن المطالعة.؟
مثلي مثلا.!
فانا على سبيل المثال وكلما ذهبت لأشتري كتابا لأقرأ قصة أو رواية أو قصيدة شعرية وبدأت بتقليب صفحات الكتب المعروضة دون النظر إلى اسم الكاتب-لأعطي فرصة للكتاب الجدد- اتركه لانتقل إلى غيره حتى دون أن التفت إلى سيرة الكاتب ومستواه التعليمي وثقافته.
لماذا.؟
أولا: حتى لا أتأثر بتلك السيرة اللامعة ثم ألومه خاصة إذا لم يكن ما يكتبه ذات مستوى.
وثانيا: حتى لا اخسر ثقتي بالعثور على كتاب جيد أستطيع أن أتمتع بمطالعته.؟
فأجد نفسي في نهاية المطاف اهرب إلى الكّتاب القلة الذين قرأت لهم وسحرت بكتاباتهم وأدبهم.
وأنا لا أخفيكم بأنني كنت أصاب بخيبة أمل كبيرة عندما لا أجد لهم الشيء الكثير من مطبوعاتهم لحجج يفندها البائع إما لفقدانها من السوق وعدم طباعتها مرة ثانية -بعد المئة- لإحجام المطابع ودور النشر عنها لأنها تكلفهم غاليا بسبب حقوق النشر للكاتب أو لورثته ( إذا كان ميتا ) هذا طبعا إذا تجاوزنا موضة المطابع بإصدار نشراتها بطبعات أنيقة وملونة مما يؤدي إلى زيادة الكلفة وهذا ينتهي بالطبع إلى امتناع القارئ عن الشراء.
إذا هناك سبب أخر أهم من كل ما ذكرت هو سبب إحجام الجمهور عن المطالعة ألا وهو نوعية المعروض من الكتابة أي جودة قلم الكاتب وجودة الكتابة ذاتها.
وتساءلت عن هذا السر الأبدي في سحر الكلمة عندما تمسك بك من أول سطر في قصة أو رواية أو بيت شعر ولا تتركك إلا وأنت عطش لقراءة المزيد منها ومهما كلفك من وقت وثمن.
وتساءلت أيضا عن سبب عدم استجابة الكلمات والعبارات والحروف بين يدي كاتب ما لتتحول هي نفسها إلى أداة للتأثير لتجلب المتعة أو الحزن أو الثورة أو الحب والتسامح بين أنامل كاتب أخر.؟
وأخيرا تساءلت عن سبب امتناعي عن المطالعة لزمن غير قصير ( يتجاوز العشر سنوات) وكنت اعتقد بأنني لابد قد أصبت بمرض ما قد اثر على هذه المزاجية التي امتلكها في حبي للمطالعة بحيث كنت اعمل على أن لا يمر يوم دون أن أقرأ معظم الصحف وبعض من الدوريات الأسبوعية والشهرية فاعمل فيها أكلا حتى انتهي منها ومن كل الزوايا الفنية والاقتصادية والكاريكاتورية وحتى الكلمات المتقاطعة بالإضافة إلى الكتب السياسية والتاريخية والاجتماعية الصادرة حديثا في ذلك الوقت. وكانت اكبر متعة لي أن أنام والكتاب على صدري.
ولا زلت اذكر كيف كنت احجز نسختي من مجلتي الأسبوعية المفضلة ( المستقبل ) التي كانت تصدر من باريس وكيف تكبدت عناء حمل أعدادها الأكثر من ألف إلى الوطن بعد أن جمعتها على مدى سنوات وقمت بتغليفها وضمها في مجلدات وكيف بقت هي مرجعي وسبب متعتي كلما مسكت عددا منها لا اتركه-أو لا يتركني- دون أن انتهي من المجلد كاملا.؟!
واذكر أيضا بأنني وبعد أن أغلقت هذه المجلة شعرت بنفسي يتيما وقد تركت دون أب أو أم يؤمن لي هذا الغذاء الروحي فحاولت أن اعثر لنفسي عن بديل فبدأت بمتابعة المجلات الكثيرة الصادرة الواحدة تلو الأخرى -وكانت حرب الخليج الأولى قد وضعت أوزارها- فلم استطع أن أتعلق أو أتابع أي منها أو من كتابها، حتى حدا بي الأمر لكي أجد عزائي بالبحث عن كتب لكتابها الكبار كالريس والماغوط وعبد ربه والخوري وعطا الله وغيرهم كثيرين ممن تعرفت إليهم وعلى كتاباتهم الرائعة فلم أجد أكثر مما قرأته لهم فيها فعدت بسؤالي الأول ماذا حدث للكلمة وماذا حدث للحرف وماذا حدث للكاتب لكي يفقد كل منهم قدرته على البلاغة وقوة الحجة والإبداع ووجدت نفسي أعود للمربع الأول ألا وهو الحرية.؟
وهكذا وعندما يفقد الكاتب أولى أدوات إبداعه وهي تلك المساحة الكبرى من الحرية تفقد كلماته مهما كانت بليغة قوة الإغراء والجذب والتأثير ومن ثم يفقد بعض من مصداقيته.؟
وهذا ما جعل لكتابة بعض منهم -بعد أن انتقلوا ليتحولوا إلى أقلام مأجورة (بسبب امتهانهم للقلم)- تفقد هذا البريق وهذا السحر الذي يجذبك إليهم وبالتالي تفقد حتى الرغبة في مطالعتهم.؟
أما عمن حرص واخلص للكلمة التي حملها فهم قلة وهم مصدر سعادتنا إذ نعود إليهم كلما شعرنا بحاجتنا إلى تلك الجرعة الضرورية من الثقافة الجادة.
وجاء الانترنت وفتح أمامي عالم آخر وكبير جدا لا ينتهي من فرص الإطلاع على الأدب على أشكاله لاكتشف بأنني لازلت ولله الحمد أتمتع بتلك الرغبة الجامحة للمطالعة وبأنني لم أتغير بدليل إنني بدأت أقع في غرام كتاب أتعرف إليهم والى كتاباتهم لأول مرة دون أن يكون لهم أي تاريخ بالكتابة أو ظهور على التلفاز أو أي استعراض لأقلامهم بالدعاية في الصحف.
فتجددت متعتي بالقراءة للقصة والشعر والرواية عندما أدركت بان العامل الأهم من كل العوامل الأخرى بعد الحرية هي نوعية الكتابة وجودتها ومقدرتها على التأثير علينا بحيث لا تحتاج للسعي إلينا لكي نتتبعها بل نحن ولمجرد أن نكتشفها نسعى خلفها وخلف من يكتبها فنطارده من موقع إلى موقع ونسعى خلفه من مكان إلى مكان وننتظر بشغف كل ما يكتبه أو ينشره أو يقوله.؟!
وهذه الجودة طبعا مرتبطة بمقدرة الكاتب على امتلاكك من أول حرف تقرأه له في أي عمل أدبي فلا يتركك إلا بعد أن تنتهي من أخر حرف مما كتب مهما طالت لأنها تعطيك زادك من الكلمة بمقدار الشغف الذي تملكه بتذوق كل ما هو رائع منها.
وانه لعمري لهو ما ينبئ بميلاد قلة من حملة الأقلام الذين سيأخذون بشعلة الأدب لينيروا لنا طريقا كنت إلى زمن قريب قد اعتبرته عصيا بوعورته وظلامه.!
وهذا ما يعطي لكبار الأدباء من فطاحل الأدب -الذين عرفناهم وقرأنا لهم وأعجبنا بهم وأحببناهم وتمسكنا بإصداراتهم واعتمدناها مراجع لنا- القوة والقيمة والمصداقية التي هم عليها.
إذا سبب أخر ومهم لامتناعنا عن المطالعة هو افتقادنا إلى جودة الكتابة والتي تقودنا بالتالي إلى العثور على الكاتب الجيد بحيث لا يحتاج لكي يفرض نفسه عليك أكثر من كلمات بسيطة يدخل بها إلى قلبك فيفعل فيها ما يشاء حيث ينقلك بكلماته من أتعس زنزانة بالعالم تقبع فيها إلى فردوس تحف به الحرية من كل جانب.
يصل إليك والى كل فرد من أفراد عائلتك ومجتمعك ومهما كانت ثقافتهم ومفرداتهم اللغوية التي بحوزتهم ليثير لديهم الحب ويهذب فيهم الخلق ويشكل بكلماته الشائعة المفهومة البسيطة ثقافة امة فيعلمهم ويغنيهم ولا يتركهم إلا وقد اكتملت سعادتهم بها.
هكذا هو الأديب والفنان والمبدع لا يحتاج لإبداعه إلا الكلمة البسيطة الجريئة الصادقة والى مجموعة من الألوان ليكتب ويلون حياتك دون كلفة أو تصنع أو تمثيل أو ابتذال فيصنع بهم ما عجزت عنه أعتا أدوات العلم الحديث من صناعته ألا وهي السعادة.
فهل نعطي ذاك الأديب -وهو يصنع من قوة الحرف وقوة الكلمة المعجزات- ما يستحقه من الاهتمام والحرية ليعيد بذلك للكلمة قيمتها وحقها وقد بدأ خلق العالم بكلمة !... أرجو ذلك.
----------------------------------------------
يحيى الصوفي / جنيف في 23 /10 / 2004