iلبروفيسور السعودي عبدالله بن أحمد الفَيْفى لـ الشاهد لا أدب بلا حداثة ولا حداثة بلا تأسيس تراثيّ
حاوره الاستاد والصحفي :وليد شموري
س1- المرجعيات المستعارة التي تتأسس عليها ثقافة المطابقة كيف السّبيل إلى التحرر منها والعقل الإنساني ليس صفحة بيضاء إنما يرتكز إلى مرجعيات هي في حقيقتها عبارة عن حمولات آخرية "تراث +غرب"؟ ألا يعد ذلك ضرب من الاستحالة والحضارات تستفيد من بعضها البعض وكل ذات هي آخر منظور له؟
ج1- أنا أفرِّق هنا بين مفهوم الحداثة البانية والحداثة الاتّباعيّة الفارغة. لقد كانت للحداثة الأدبيّة، منذ كتابها المقدَّس «مجلّة شِعر»، دعاوَى عِراض، ذهبت أدراج الرياح. ثم جاءت حركة (ما بعد الحداثة) متنصِّلةً من دعاوَى (الحداثة) الأُولى، غيرَمؤمنةٍ بالقطيعة مع التراث، بل ساعية إلى استلهامه. ونشأت أجيالٌ، في ضروب الفنون والآداب، أَشَدّ وعيًا بالذات وبالآخَر، وأوسع معرفةً بالتراث وبالحاضر والمستقبل. تعبِّر عن هويَّتها دون أن تغرَق في الغبار، وعن عصرها، دون أن تمَّسِخ ذَوَبانًا فيه. لقد انتهت على يدَيها العُقَدُ العتيقة للأصالة والمعاصرة، والعرب والغرب، والصراع الموروث للقَدامة والحداثة، والتأزُّمُ (الجِيني) بين النحن والآخَر. فظهرت فلسفةٌ جديدةٌ في توليف الأبعاد، التي كانت تبدو لجيلٍ سَلَف متنافرةً، لا يقوم أحدها إلَّا على رُفاتالآخَر. ومنذ عِقدٍ من السنوات تقريبًا أخذ هذا التيّار يتصاعد في العالم العربي، في الشِّعر، كما في الفنون التشكيليَّة، وفي سِواهما. وهو ما كنتُ أسميته، منذ عِقدٍ من السنوات، تيَّار «الحداثة الأصيلة»، في كتابي «حداثة النصّ الشِّعري في المملكة العربيَّة السعوديَّة: قراءة نقديَّة في تحوُّلات المشهد الإبداعيّ»، 2005. ذلك أن مصطلح «ما بعد الحداثة» يبدو مضلِّلًا، بدَوره، فإنَّما هي، في الواقع، «حداثة أخرى»، لا «ما بعدها». ذلك لكي نتجنَّب تلك المصادرات القطائعيَّة،بمصطلحاتها، التي كانت من المآخذ على الحداثة. بل إن مصطلح «ما بعد الحداثة» نفسه ما هو إلَّا من نتاجات تلك المرحلة نفسها، المهووسة بالإقصاء، والنفي، والإلغاء، والتصنيفات، والـ«ما بَعديَّات». هذه (الحداثة الأصيلة)اليوم هي محصِّلة التجربة والفشل، والبحث الدؤوب عن أهدى سبيل إلى (الجميل الأثيل)، المخصِب، الباني، الذي ظلَّ هاجِسَ كلِّ نُزوعٍ إبداعيٍّ حقيقيٍّ، في كلِّ زمانٍ ومكان. العرب كانت تقول: «لا جديدَ لِـمَنْ لا خَلَقَ له»! أي لا جديد لمن لا قديم له. فلا أدب بلا حداثة، ولا حداثة بلا تأسيسٍ تراثيّ. هذه الجدليّة إذا تعامل معها المبدع بوعيٍ وبمسؤوليةٍ، أثمر، وإلّا انغلق في الماضي، أو انبتَّ من جذوره. وكلا الاتجاهين عقيم.
س2-يوصف التحيز بأنه سلبية وجب التحرر منها، هل يمكن للذات أن تعيش حيادية قاتلة لتتحرر من تحيزاتها؟ ألا يمكن اعتبار هذا الحياد تعبيرًا عن أزمة قيمية ومن ثمة معرفية؟
ج2- لا صحّة لوجود حيادٍ في الحياة أصلًا. والمثقّف قبل أن يكون مثقّفًا هو إنسان، وهو مواطن، وهو منشغل بهموم العالَم من حوله. هموم الحياة ليست تخصُّصًا. لقد كان الشاعر العربي في ثقافتنا العربيّة- على سبيل الشاهد- رائدًا، وسيِّدًا في قومه، بما هو مثقف وشاعر. لأنه يحمل الرأي والرؤية والراية، من خلال الكلمة. على أن مفهوم السياسة الحديث قد تلوَّثَ حتى أوشك يصبح سُبَّة. والمحكّ في حَلّ المعادلة (المثقف-السياسي) هو في فهم ما نعنيه بهذين المصطلحَين. فإذا كان معناهما يتمحور حول الحقّ والخير والجمال، فليس ثمّة مِن تَعارُض، ولا تَنافُر. والتجارب في هذا كثيرة. أمّا حين يطغى أحد المكوِّنين في هذه المعادلة على الآخَر، ولا سيما مكوِّني (الصدق، والمكر المتنافي مع الصدق) فهنالك يقع الفصام، فلا المثقف يبقى مثقفًا، ولا السياسي يبقى سياسيًّا. لكنها أزمة لا تقع في كلّ الأحوال. لأجل ذلك، فإن المثقف الذي يسعى ليبيض في بُرجه العاجي، باسم الحياد، مصيره أن يصبح كعنقاء مُغرب، اسمًا بلا مسمَّى.
س3-ألا ترى أن الظاهرة الأدبية قد تسهم في التأثير في السياق وتغيّر منحى الظاهرة الاجتماعية والثقافية؟وإن كنت ترى العملية تأثيرًا وتأثرًا متبادلًافما رؤيتك للأدب الملتزم؟وماالأجدى في نظر البروفيسور عبد الله بن أحمد الفَيْفي لإيجاد وعي أدبي إنساني يعبر عن ذاته؟
ج3- من المفترض أن الأدباء هم الصوت دائمًا لا الصدى؛ بمعنى أنهم قادة التغيير والثورة، يتقدّمون الواقع ولا يردّدونه. ذلك إذا كانوا أدباء حقًّا. إلّا أن الصوت في عالمنا العربي بلا آليّة فاعلة، لذلك ظلّ صوتًا في الهواء، غالبًا. لنأخذ نموذجًا ممّا سُمِّي بـ«الربيع العربي»، الذي انقلب، مع الأسف، إلى:«الكابوس العربي»؛وذلك لشبكة معقّدة من العوامل، بنيويّة وخارجيّة.إنه حراك شامل، اجتماعيًّا واقتصاديًّا وسياسيًّا وثقافيًّا. ولكن أين دور الأدب فيه؟ لقد ظلّ منضويًا تحت عباءة الأنظمة لحسابات شتى. لماذا؟ هناك تراجع لمكانة الشاعر والناثر والمفكّر في عالمنا العربي، نتاجَ عقودٍ من التربية، والتدجين، والقمع، وضرورات الحياة القاهرة. هذا فضلًا عن فساد المنتَج نفسه، بضياعه بين تقاليد ماضويَّة أو اغترابيَّة.أمّا الالتزام، فهو لا يصبح أدبًا فاعلًا في الواقع إلّا حين يكون التزامًا حقًّا، منبثقًا من ضمير المبدع، لا إلزامًا فوقيًّا، على طريقة الواقعيّة الاشتراكيَّة.
س4- لماذا كتب على الناقد العربي ان يرتحل من منهج الى آخر؟
ج4- النقد عِلْم، والأدب فنّ. وإذا كان لا بدّ في الأدب من الأصالة لكي لا يفقد هويّته، فلا بدّ في النقد من الأخذ بكل الأسباب المنهاجيّة بوصفه عِلْمًا، لكي لا يفقد حيويّته.وأمّا ما يتعلّق بالنقد الأدبي العربي الحديث، وما مدى منجزه مقارنةً بالنقد الغربي، فلا مندوحة من الاعترافأن النقد العربي لم يُنتِج بعدُما يُذكَر له على المستوى العالمي. ذلك أن النقّاد العرب طائفتان، طائفة غارقة في الغرب، وطائفة غارقة في القديم، وبينهما ثالثة تسعى سعيها المتعثِّر. لماذا؟ لأن النقد الأدبي ليس بمعزل عن الفلسفة ولا عن التيّارات الفكرية وحراكهما في الأُمَّة. وحال هذين (الفلسفة والفكر) في عالمنا العربي ما زالت من الضحالة، ومن المراوحة بين الاجترار والتبعيّة، بما يجعلهما دون خطّ الإنتاج المضاهي لما لدى الآخَر من المنجَز ومن التحوّلات النظريّة. أنا أنظر إلى الأمر هنا في وحدة بنيويّة تفاعليّة، لا ينفصل النقد الأدبي فيها عن سواه من المكوِّنات المعرفيّة والحضاريّة. على أننا كثيرًا ما نسمع مَن يقفز بفكرةٍ سانحةٍ أو بارحةٍ هنا أو هناك ليصيح:«لديَّ نظريَّة جديدة»! فإذا أنت تسمع هذا لديه نظرية وذاك لديه نظريّات-قد تغيّر مجرى التاريخ-لكنكحين النظر ستجد أنها لا تعدو أفكارًا عابرة في الغالب، يمكن أن تَعِنَّ في أيّ دماغ! غير أنه استسهال الثرثرة، والاستخفاف بالمفاهيم والمصطلحات.
س5-لو سألتك عن أزمة الثقافة العربية كيف تشرّحها وهل هي في جوهرها مشكلة ثقافية أم مشكلة نقدية؟
ج5- أيّ مثقَّف عربيّ مبدئيّ لدينا اليوم؟! وأين هو؟ أليس من المُرِيْعٌ ثقافيًّا أن يقف المثقّف- الذي صَكّ الأسماع بدعاوَى الحُريّة والديمقراطيّة والمدنيّة- نصيرَ الرِّدَّة عن ذلك كلّه؟! سوادهم كذلك. معظم ما هنالك طوائف من عساكر شتَّى، كلّ معسكر يتألَّف من جنود مجنّدين في سبيل مآربهم. ذلك أن المثقّف الحقّ اليوم هو الإنسان البسيط. وحبّذا أن يكون أُمِّيًّا، كي يكون طاهرًا، غير مُؤدلَج ولا مُبرمَج. حبّذا أن يكون إنسانًا فقط، بلا أيّ خلفيّات مكتسبة، ولا تعليب ذهني.إن آفةالمثقَّف العربي اليوم لا تكمن في التسييس، بل في «التدجين». لأن المثقَّف المسيّس، المبدئي، له خياره، وتلك حريّته؛ فإذا كان يرى هذا التوجّه أو ذاك عن قناعة، وعن راحة ضمير، وباختيارٍ حرّ، فله ذلك، وحسابه على التاريخ. لكن الازدواج، والتلوُّن، هما امّساخ المثقَّف، وهاويته الأوسع (بالخاء)! إنها، إذن، أزمة ثقافيّة نقديّة.وثقافة بلا حِسٍّ نقديٍّ متوقّد إديولوجيا لا ثقافة.
س6- بين الشرق والمغرب العربي ثمة ما يشبه القطيعة الثقافية فلا نكاد نتواصل إلا على استحياء كيف السبيل الى خلق فضاءات التواصل بينهما؟
ج6- نعم يقع هذا على الرغم من ثورة الاتصالات الحديثة. إن العرب يستخدمون التقنية الحديثة- وهم عالة على الآخرين في إنتاجها- في ما يضرّهم غالبًا، لا في ما ينفعهم، على الصُّعُد كافّة. يستخدومنها في التخدير، والإلهاء، ونشر الأوبئة النفسيّة والاجتماعيّة، وبثّ العامّيّات، والأضاليل، والتفاهات، وحتى الخرافات والشعوذات. إن التقنية لم تزدنا- فيما يبدو- إلّا عشقًا لعوالمنا البدائيَّة الغريزيَّة المتَّقدة؛ إذ وُظّفت للترويج لتلك العوالم الدنيا، لا ارتفاعًا إلى ما يفترضه عالمها الرقمي من قِيَم العقل والعلم والفكر والروح والإبداع والتوحّد الإنساني. غير أن للصورة وجهًا آخر مضيئًا. وهو أنه، مع كل السلبيّات، فإن الإعلام الحرّ الجديد قد مدّ الجسور بين بني البشر كافّة. وأزعم أن القطيعة الثقافيّة لم تعد إلّا على المستوى الرسمي؛ لأمراض سياسيَّة معروفة. أمّا على مستوى الشعوب، فاتصال المرء بالبعيد مكانًا اليوم قد يكون أقوى من اتصاله بالقريب.
س7- كيف تقيّم المشهد الروائي السعودي هل بلغت الرواية السعودية النضج الفني خاصة في ظل انتشارها الواسع وما رأيك في من يرى أنّها كسرت المحرمات؟
ج7- لم تكن مقولة «الشِّعر ديوان العرب» تعني أنه الأكثر انتشارًا، بل أنه سِجِلّ الروح العربيَّة، وديوان الهويَّة، واللغة، والثقافة. فهل الرواية اليوم سِجِلّ الروح العربيَّة، وديوان الهويَّة واللغة والثقافة؟ أم قد تكون سجلّ الروح الغربيَّة، وديوان الاغتراب، وشتات الهويَّة والثقافة واللغة. فكيف تُعَدّ الرواية «ديوان العرب»؟! وحتى لو أُخِذ الأمر بمقياس الجماهيريّة والانتشار (المغلوط)، فما مدى انتشار الرواية العربيّة شعبيًّا، قياسًا إلى انتشار القصيدة؟ وما الذي أوقد الثورات الشعبيّة العربيّة، قديمًا وحديثًا، وصولًا إلى ما سُمِّي الربيع العربي؟ أ هي الرواية؟ أم «إذا الشعب يومًا أراد الحياة...»، ونحوها من النصوص الشِّعريّة؟ إن القضية ليست بمعركةٍ مزاديّة، بين انتماءٍ لتيّار وانتماءٍ آخر، بل هي تلك المنطلقات الموضوعيّة والتاريخيّة والنقديّة. أمّا حكاية المحرّمات وكسرها، فدعوَى لا تُسمن الأدب ولا تُغني القِيَم. الأدب- بصفة عامّة- لا يكتسب قيمته الفنيَّة بكسر القِيَم الاجتماعيَّة ولا ببنائها، بل بالتحوّلات النوعيَّة في مادة الأدب نفسها، لغةً وتقنيةً وتعبيرًا. فورة الرواية في السعوديَّة قامت على أكتاف عاملين: العامل الاجتماعي، صراعًا من أجل تحدّيه وتجاوزه، والعامل الشِّعري، الذي ظلّ له القِدح المعلّى في أدب الجزيرة العربيّة منذ كانت. لكن لا الفورة الكميّة تُنتج محصولًا جيّدًا ولاالخطاب المحتقن لأسباب إديولوجيّة واجتماعيّة. كلّا، لم تبلغ الرواية نضجها، لا في السعوديَّة ولا حتى في العالم العربي عمومًا، فالمشهد واحد، وإن بفروق تكاد لا تُذكر. وإذ نقول هذا فبالنظر إلى إجمال التجربة لا إلى المنجزات الفرديَّة هنا وهناك. غير أن الرواية، حسب تقديري، في طور التشكّل الناضج، بعد هدأة البراكين الانفعاليّة، فضلًا عن البراكين التجاريّة المصاحبة.
س8- كيف علاقتك بالجزائر والجزائريين؟
ج8- علاقة عِلْميَّة وأدبيَّة. وقبل ذلك علاقة عروبيَّة. في كلّ عربيّ منا جزائري بمليون قصيدة. جزائر (أحلام مستغانمي)، كانت روائيًّاهنا منذ وقتٍ مبكّر. ثمّ جمعتني في بعض المؤتمرات النقديّة حميميَّةٌ بأصدقاء من الجزائر. كما شرفتُ بالمشاركة في تمثيل المملكة في إحياء أمسية شِعريّة ضمن الأيام الثقافية الجزائريّة في السعودية، أقيمت في نادي الرياض الأدبي، مساء الأحد 5 ربيع الآخر 1428هـ.للأسف، لمّا أسعد بزيارة الجزائر بعد، لكنها في باقة الأحلام المستقبليّة.
س9- كلمة أخيرة لقراء الشاهد؟
ج9- الشكر أوّلًا، والدعاء للجزائر وأهلها بغدٍ يليق بهذا الوطن العربي العزيز.أما والأسئلة تُعرّج على الشِّعر والرواية والنقد، فإن للقراء في حقيبتي مجموعة شِعرية ثالثة تصدر قريبًا، وكتابًا نقديًّا في الأدب المقارن،يطلّ على (الجزائر) من خلال الأديب الإسباني (ميجيل دي سرفانتس سابدرا Miguel de Cervantes Saavedra، 1547- 1616)، وكذلك رواية أولى،صدرت لي مؤخّرًا، تحت عنوان "طائر الثَّبَغْطِر". لعلّ في تلك الأعمال جميعًا تفاصيل أخرى من إجاباتي عن أسئلة "الشاهد".
البروفيسور السعودي عبدالله بن أحمد الفَيْفى لـ الشاهد: لا أدب بلا حداثة ولا حداثة بلا تأسيس تراثيّ حاوره:وليد شموري س1- المرجعيات المستعارة التي تتأسس عليها ثقافة المطابقة كيف السّبيل إلى التحرر منها والعقل الإنساني ليس صفحة بيضاء إنما يرتكز إلى مرجعيات هي في حقيقتها عبارة عن حمولات آخرية "تراث +غرب"؟ ألا يعد ذلك ضرب من الاستحالة والحضارات تستفيد من بعضها البعض وكل ذات هي آخر منظور له؟ ج1- أنا أفرِّق هنا بين مفهوم الحداثة البانية والحداثة الاتّباعيّة الفارغة. لقد كانت للحداثة الأدبيّة، منذ كتابها المقدَّس «مجلّة شِعر»، دعاوَى عِراض، ذهبت أدراج الرياح. ثم جاءت حركة (ما بعد الحداثة) متنصِّلةً من دعاوَى (الحداثة) الأُولى، غيرَمؤمنةٍ بالقطيعة مع التراث، بل ساعية إلى استلهامه. ونشأت أجيالٌ، في ضروب الفنون والآداب، أَشَدّ وعيًا بالذات وبالآخَر، وأوسع معرفةً بالتراث وبالحاضر والمستقبل. تعبِّر عن هويَّتها دون أن تغرَق في الغبار، وعن عصرها، دون أن تمَّسِخ ذَوَبانًا فيه. لقد انتهت على يدَيها العُقَدُ العتيقة للأصالة والمعاصرة، والعرب والغرب، والصراع الموروث للقَدامة والحداثة، والتأزُّمُ (الجِيني) بين النحن والآخَر. فظهرت فلسفةٌ جديدةٌ في توليف الأبعاد، التي كانت تبدو لجيلٍ سَلَف متنافرةً، لا يقوم أحدها إلَّا على رُفاتالآخَر. ومنذ عِقدٍ من السنوات تقريبًا أخذ هذا التيّار يتصاعد في العالم العربي، في الشِّعر، كما في الفنون التشكيليَّة، وفي سِواهما. وهو ما كنتُ أسميته، منذ عِقدٍ من السنوات، تيَّار «الحداثة الأصيلة»، في كتابي «حداثة النصّ الشِّعري في المملكة العربيَّة السعوديَّة: قراءة نقديَّة في تحوُّلات المشهد الإبداعيّ»، 2005. ذلك أن مصطلح «ما بعد الحداثة» يبدو مضلِّلًا، بدَوره، فإنَّما هي، في الواقع، «حداثة أخرى»، لا «ما بعدها». ذلك لكي نتجنَّب تلك المصادرات القطائعيَّة،بمصطلحاتها، التي كانت من المآخذ على الحداثة. بل إن مصطلح «ما بعد الحداثة» نفسه ما هو إلَّا من نتاجات تلك المرحلة نفسها، المهووسة بالإقصاء، والنفي، والإلغاء، والتصنيفات، والـ«ما بَعديَّات». هذه (الحداثة الأصيلة)اليوم هي محصِّلة التجربة والفشل، والبحث الدؤوب عن أهدى سبيل إلى (الجميل الأثيل)، المخصِب، الباني، الذي ظلَّ هاجِسَ كلِّ نُزوعٍ إبداعيٍّ حقيقيٍّ، في كلِّ زمانٍ ومكان. العرب كانت تقول: «لا جديدَ لِـمَنْ لا خَلَقَ له»! أي لا جديد لمن لا قديم له. فلا أدب بلا حداثة، ولا حداثة بلا تأسيسٍ تراثيّ. هذه الجدليّة إذا تعامل معها المبدع بوعيٍ وبمسؤوليةٍ، أثمر، وإلّا انغلق في الماضي، أو انبتَّ من جذوره. وكلا الاتجاهين عقيم. س2-يوصف التحيز بأنه سلبية وجب التحرر منها، هل يمكن للذات أن تعيش حيادية قاتلة لتتحرر من تحيزاتها؟ ألا يمكن اعتبار هذا الحياد تعبيرًا عن أزمة قيمية ومن ثمة معرفية؟ ج2- لا صحّة لوجود حيادٍ في الحياة أصلًا. والمثقّف قبل أن يكون مثقّفًا هو إنسان، وهو مواطن، وهو منشغل بهموم العالَم من حوله. هموم الحياة ليست تخصُّصًا. لقد كان الشاعر العربي في ثقافتنا العربيّة- على سبيل الشاهد- رائدًا، وسيِّدًا في قومه، بما هو مثقف وشاعر. لأنه يحمل الرأي والرؤية والراية، من خلال الكلمة. على أن مفهوم السياسة الحديث قد تلوَّثَ حتى أوشك يصبح سُبَّة. والمحكّ في حَلّ المعادلة (المثقف-السياسي) هو في فهم ما نعنيه بهذين المصطلحَين. فإذا كان معناهما يتمحور حول الحقّ والخير والجمال، فليس ثمّة مِن تَعارُض، ولا تَنافُر. والتجارب في هذا كثيرة. أمّا حين يطغى أحد المكوِّنين في هذه المعادلة على الآخَر، ولا سيما مكوِّني (الصدق، والمكر المتنافي مع الصدق) فهنالك يقع الفصام، فلا المثقف يبقى مثقفًا، ولا السياسي يبقى سياسيًّا. لكنها أزمة لا تقع في كلّ الأحوال. لأجل ذلك، فإن المثقف الذي يسعى ليبيض في بُرجه العاجي، باسم الحياد، مصيره أن يصبح كعنقاء مُغرب، اسمًا بلا مسمَّى. س3-ألا ترى أن الظاهرة الأدبية قد تسهم في التأثير في السياق وتغيّر منحى الظاهرة الاجتماعية والثقافية؟وإن كنت ترى العملية تأثيرًا وتأثرًا متبادلًافما رؤيتك للأدب الملتزم؟وماالأجدى في نظر البروفيسور عبد الله بن أحمد الفَيْفي لإيجاد وعي أدبي إنساني يعبر عن ذاته؟ ج3- من المفترض أن الأدباء هم الصوت دائمًا لا الصدى؛ بمعنى أنهم قادة التغيير والثورة، يتقدّمون الواقع ولا يردّدونه. ذلك إذا كانوا أدباء حقًّا. إلّا أن الصوت في عالمنا العربي بلا آليّة فاعلة، لذلك ظلّ صوتًا في الهواء، غالبًا. لنأخذ نموذجًا ممّا سُمِّي بـ«الربيع العربي»، الذي انقلب، مع الأسف، إلى:«الكابوس العربي»؛وذلك لشبكة معقّدة من العوامل، بنيويّة وخارجيّة.إنه حراك شامل، اجتماعيًّا واقتصاديًّا وسياسيًّا وثقافيًّا. ولكن أين دور الأدب فيه؟ لقد ظلّ منضويًا تحت عباءة الأنظمة لحسابات شتى. لماذا؟ هناك تراجع لمكانة الشاعر والناثر والمفكّر في عالمنا العربي، نتاجَ عقودٍ من التربية، والتدجين، والقمع، وضرورات الحياة القاهرة. هذا فضلًا عن فساد المنتَج نفسه، بضياعه بين تقاليد ماضويَّة أو اغترابيَّة.أمّا الالتزام، فهو لا يصبح أدبًا فاعلًا في الواقع إلّا حين يكون التزامًا حقًّا، منبثقًا من ضمير المبدع، لا إلزامًا فوقيًّا، على طريقة الواقعيّة الاشتراكيَّة. س4- لماذا كتب على الناقد العربي ان يرتحل من منهج الى آخر؟ ج4- النقد عِلْم، والأدب فنّ. وإذا كان لا بدّ في الأدب من الأصالة لكي لا يفقد هويّته، فلا بدّ في النقد من الأخذ بكل الأسباب المنهاجيّة بوصفه عِلْمًا، لكي لا يفقد حيويّته.وأمّا ما يتعلّق بالنقد الأدبي العربي الحديث، وما مدى منجزه مقارنةً بالنقد الغربي، فلا مندوحة من الاعترافأن النقد العربي لم يُنتِج بعدُما يُذكَر له على المستوى العالمي. ذلك أن النقّاد العرب طائفتان، طائفة غارقة في الغرب، وطائفة غارقة في القديم، وبينهما ثالثة تسعى سعيها المتعثِّر. لماذا؟ لأن النقد الأدبي ليس بمعزل عن الفلسفة ولا عن التيّارات الفكرية وحراكهما في الأُمَّة. وحال هذين (الفلسفة والفكر) في عالمنا العربي ما زالت من الضحالة، ومن المراوحة بين الاجترار والتبعيّة، بما يجعلهما دون خطّ الإنتاج المضاهي لما لدى الآخَر من المنجَز ومن التحوّلات النظريّة. أنا أنظر إلى الأمر هنا في وحدة بنيويّة تفاعليّة، لا ينفصل النقد الأدبي فيها عن سواه من المكوِّنات المعرفيّة والحضاريّة. على أننا كثيرًا ما نسمع مَن يقفز بفكرةٍ سانحةٍ أو بارحةٍ هنا أو هناك ليصيح:«لديَّ نظريَّة جديدة»! فإذا أنت تسمع هذا لديه نظرية وذاك لديه نظريّات-قد تغيّر مجرى التاريخ-لكنكحين النظر ستجد أنها لا تعدو أفكارًا عابرة في الغالب، يمكن أن تَعِنَّ في أيّ دماغ! غير أنه استسهال الثرثرة، والاستخفاف بالمفاهيم والمصطلحات. س5-لو سألتك عن أزمة الثقافة العربية كيف تشرّحها وهل هي في جوهرها مشكلة ثقافية أم مشكلة نقدية؟ ج5- أيّ مثقَّف عربيّ مبدئيّ لدينا اليوم؟! وأين هو؟ أليس من المُرِيْعٌ ثقافيًّا أن يقف المثقّف- الذي صَكّ الأسماع بدعاوَى الحُريّة والديمقراطيّة والمدنيّة- نصيرَ الرِّدَّة عن ذلك كلّه؟! سوادهم كذلك. معظم ما هنالك طوائف من عساكر شتَّى، كلّ معسكر يتألَّف من جنود مجنّدين في سبيل مآربهم. ذلك أن المثقّف الحقّ اليوم هو الإنسان البسيط. وحبّذا أن يكون أُمِّيًّا، كي يكون طاهرًا، غير مُؤدلَج ولا مُبرمَج. حبّذا أن يكون إنسانًا فقط، بلا أيّ خلفيّات مكتسبة، ولا تعليب ذهني.إن آفةالمثقَّف العربي اليوم لا تكمن في التسييس، بل في «التدجين». لأن المثقَّف المسيّس، المبدئي، له خياره، وتلك حريّته؛ فإذا كان يرى هذا التوجّه أو ذاك عن قناعة، وعن راحة ضمير، وباختيارٍ حرّ، فله ذلك، وحسابه على التاريخ. لكن الازدواج، والتلوُّن، هما امّساخ المثقَّف، وهاويته الأوسع (بالخاء)! إنها، إذن، أزمة ثقافيّة نقديّة.وثقافة بلا حِسٍّ نقديٍّ متوقّد إديولوجيا لا ثقافة. س6- بين الشرق والمغرب العربي ثمة ما يشبه القطيعة الثقافية فلا نكاد نتواصل إلا على استحياء كيف السبيل الى خلق فضاءات التواصل بينهما؟ ج6- نعم يقع هذا على الرغم من ثورة الاتصالات الحديثة. إن العرب يستخدمون التقنية الحديثة- وهم عالة على الآخرين في إنتاجها- في ما يضرّهم غالبًا، لا في ما ينفعهم، على الصُّعُد كافّة. يستخدومنها في التخدير، والإلهاء، ونشر الأوبئة النفسيّة والاجتماعيّة، وبثّ العامّيّات، والأضاليل، والتفاهات، وحتى الخرافات والشعوذات. إن التقنية لم تزدنا- فيما يبدو- إلّا عشقًا لعوالمنا البدائيَّة الغريزيَّة المتَّقدة؛ إذ وُظّفت للترويج لتلك العوالم الدنيا، لا ارتفاعًا إلى ما يفترضه عالمها الرقمي من قِيَم العقل والعلم والفكر والروح والإبداع والتوحّد الإنساني. غير أن للصورة وجهًا آخر مضيئًا. وهو أنه، مع كل السلبيّات، فإن الإعلام الحرّ الجديد قد مدّ الجسور بين بني البشر كافّة. وأزعم أن القطيعة الثقافيّة لم تعد إلّا على المستوى الرسمي؛ لأمراض سياسيَّة معروفة. أمّا على مستوى الشعوب، فاتصال المرء بالبعيد مكانًا اليوم قد يكون أقوى من اتصاله بالقريب. س7- كيف تقيّم المشهد الروائي السعودي هل بلغت الرواية السعودية النضج الفني خاصة في ظل انتشارها الواسع وما رأيك في من يرى أنّها كسرت المحرمات؟ ج7- لم تكن مقولة «الشِّعر ديوان العرب» تعني أنه الأكثر انتشارًا، بل أنه سِجِلّ الروح العربيَّة، وديوان الهويَّة، واللغة، والثقافة. فهل الرواية اليوم سِجِلّ الروح العربيَّة، وديوان الهويَّة واللغة والثقافة؟ أم قد تكون سجلّ الروح الغربيَّة، وديوان الاغتراب، وشتات الهويَّة والثقافة واللغة. فكيف تُعَدّ الرواية «ديوان العرب»؟! وحتى لو أُخِذ الأمر بمقياس الجماهيريّة والانتشار (المغلوط)، فما مدى انتشار الرواية العربيّة شعبيًّا، قياسًا إلى انتشار القصيدة؟ وما الذي أوقد الثورات الشعبيّة العربيّة، قديمًا وحديثًا، وصولًا إلى ما سُمِّي الربيع العربي؟ أ هي الرواية؟ أم «إذا الشعب يومًا أراد الحياة...»، ونحوها من النصوص الشِّعريّة؟ إن القضية ليست بمعركةٍ مزاديّة، بين انتماءٍ لتيّار وانتماءٍ آخر، بل هي تلك المنطلقات الموضوعيّة والتاريخيّة والنقديّة. أمّا حكاية المحرّمات وكسرها، فدعوَى لا تُسمن الأدب ولا تُغني القِيَم. الأدب- بصفة عامّة- لا يكتسب قيمته الفنيَّة بكسر القِيَم الاجتماعيَّة ولا ببنائها، بل بالتحوّلات النوعيَّة في مادة الأدب نفسها، لغةً وتقنيةً وتعبيرًا. فورة الرواية في السعوديَّة قامت على أكتاف عاملين: العامل الاجتماعي، صراعًا من أجل تحدّيه وتجاوزه، والعامل الشِّعري، الذي ظلّ له القِدح المعلّى في أدب الجزيرة العربيّة منذ كانت. لكن لا الفورة الكميّة تُنتج محصولًا جيّدًا ولاالخطاب المحتقن لأسباب إديولوجيّة واجتماعيّة. كلّا، لم تبلغ الرواية نضجها، لا في السعوديَّة ولا حتى في العالم العربي عمومًا، فالمشهد واحد، وإن بفروق تكاد لا تُذكر. وإذ نقول هذا فبالنظر إلى إجمال التجربة لا إلى المنجزات الفرديَّة هنا وهناك. غير أن الرواية، حسب تقديري، في طور التشكّل الناضج، بعد هدأة البراكين الانفعاليّة، فضلًا عن البراكين التجاريّة المصاحبة. س8- كيف علاقتك بالجزائر والجزائريين؟ ج8- علاقة عِلْميَّة وأدبيَّة. وقبل ذلك علاقة عروبيَّة. في كلّ عربيّ منا جزائري بمليون قصيدة. جزائر (أحلام مستغانمي)، كانت روائيًّاهنا منذ وقتٍ مبكّر. ثمّ جمعتني في بعض المؤتمرات النقديّة حميميَّةٌ بأصدقاء من الجزائر. كما شرفتُ بالمشاركة في تمثيل المملكة في إحياء أمسية شِعريّة ضمن الأيام الثقافية الجزائريّة في السعودية، أقيمت في نادي الرياض الأدبي، مساء الأحد 5 ربيع الآخر 1428هـ.للأسف، لمّا أسعد بزيارة الجزائر بعد، لكنها في باقة الأحلام المستقبليّة. س9- كلمة أخيرة لقراء الشاهد؟ ج9- الشكر أوّلًا، والدعاء للجزائر وأهلها بغدٍ يليق بهذا الوطن العربي العزيز.أما والأسئلة تُعرّج على الشِّعر والرواية والنقد، فإن للقراء في حقيبتي مجموعة شِعرية ثالثة تصدر قريبًا، وكتابًا نقديًّا في الأدب المقارن،يطلّ على (الجزائر) من خلال الأديب الإسباني (ميجيل دي سرفانتس سابدرا Miguel de Cervantes Saavedra، 1547- 1616)، وكذلك رواية أولى،صدرت لي مؤخّرًا، تحت عنوان "طائر الثَّبَغْطِر". لعلّ في تلك الأعمال جميعًا تفاصيل أخرى من إجاباتي عن أسئلة "الشاهد".
[url=
]
[/url]