أسئلة التأصيل السردي في الرواية العربية
بقلم: د: إدريس جندا ري **
خاضت الرواية العربية؛ منذ سبعينيات القرن العشرين؛ تجربة جديدة في الإبداع؛ حاولت من خلالها تجاوز الرؤية الكلاسيكية (الواقعية)؛ و قد كان رائد الواقعية العربية ( نجيب محفوظ) أول من دشن هذا الانتقال؛ فقد حاول منذ السبعينيات؛ تجريب قوالب روائية جديدة؛ سواء من خلال تجريب قالب الرحلة؛ في روايته (رحلة ابن فطومة)؛ أو من خلال تجريب قالب الحكي السردي التراثي؛ في حكايات (ألف ليلة و ليلة) في روايته )ليالي ألف ليلة) ....
و قد كان هذا التدشين؛ بمثابة البداية الحقيقية؛ لظهور تيار التأصيل الروائي؛ في الرواية العربية؛ حيث سيفرض نفسه كخيار جديد في الكتابة الروائية؛ و ذلك ما يؤكد عليه الحراك الإبداعي؛ الذي قاده روائيون من حجم كبير؛ أمثال جمال الغيطاني؛ الذي جرب قوالب حكائية تراثية؛ و أبدع غاية الإبداع؛ و خصوصا في روايته ( الزيني بركات)؛ التي جرب فيها الروائي؛ السرد التاريخي القديم؛ عبر دخوله في علاقة تناصية؛ مع كتاب ( بدائع الزهور في وقائع الدهور) لابن إياس. و كذلك إميل حبيبي في روايته (الوقائع الغريبة في اختفاء أبي النحس المتشائل)؛ و التي جرب فيها قوالب و متون تراثية مثل السيرة و الأمثال و المقامة. بالإضافة إلى (أمين معلوف) في روايته (ليون الإفريقي)؛ حيث جرب قالب الرحلة في شكله التراثي؛ عبر الدخول في علاقة تناصية مع كتاب (وصف إفريقيا) للحسن الوزان.
هذه بعض التجارب الروائية العربية؛ التي اشتركت في نفس الرؤية الإبداعية؛ و حاولت بذلك التأسيس لتيار جديد في الرواية العربية؛ وهو ما أطلق عليه النقاد اسم (الرواية الجديدة)(1) أو (الرواية التراثية) أو (التأصيل الروائي) ؛ و كلها أسماء تحيل على مسمى واحد؛ هو الإبداع الروائي الجديد؛ الذي ظهر خلال مرحلة السبعينات؛ و حاول استثمار القوة الكامنة في التراث العربي؛ سواء على مستوى القالب الفني؛ أو على مستوى المتن الحكائي.
1- الرواية الجديدة و التراث السردي العربي أية علاقة ؟
مع التطورات الكبرى التي عرفتها الأجناس الأدبية؛ و مع ما رافق ذلك من تنظير مواز؛ أمكن للرواية أن تؤسس ذاتها على أساسين متينين:
- يتمثل الأول ؛ في كون الرواية؛ خطاب سردي يستمد أهم مقوماته؛ من اشتغاله على القصة " بشخصياتها و أحداثها و فضائها "؛ حيث يبرز البعد السردي مساهما في خلق عالم متخيل؛ يتفاعل مع العالم الواقعي؛ عبر عنصر اللغة؛ الذي يلعب دورا مهما؛ في رسم معالم هذا العالم المتخيل؛ من خلال إنجاز القصة؛ أو إعادة إنجازها .
- يتمثل الثاني في أن الرواية تشكلت كخطاب منفتح؛ اعتمادا على فلسفة تناصية؛ تعتبر أن جميع النصوص تدخل في علاقة تناصية؛ مع نصوص أخرى؛ أي أنه ليس هناك إبداع من فراغ. و إذا كان التناص تحويلا و استيعابا لعدة نصوص؛ يقوم به نص مركزي؛ يحتفظ بمركز الصدارة في المعنى؛ فإن الأمر يتطلب التمييز بين درجات هذا التحويل و الاستيعاب؛ الذي يتماوج بين التلميح تارة؛ و بين استعارة وحدة تناصية تارة أخرى. و من هذا المنطلق؛ فإن التناص يطرح إشكالات عميقة في مجال الكتابة السردية؛ و ذلك لأنه " يؤسس لتعالقات؛ يكون بإمكانها أن تنهض بين الأعمال الأدبية؛ باعتبارها نصوصا حاضرة و غائبة من جهة؛ و رؤيات للعالم من جهة أخرى" (2) إن هذا اللجوء إلى أجناس و خطابات أخرى؛ بالانفتاح عليها و إقامة علاقات تناصية معها؛ هو ما جعل الرواية تزخر بأساليب و جماليات مختلفة و متداخلة؛ تجعلها قادرة على تطعيم وحداتها السردية بأساليب و تقنيات مختلفة.
2- الرواية العربية الجديدة و أشكال الانفتاح على التراث السردي
إذا اعتبرنا الرواية خطابا سرديا؛ يشتغل على القصة بشخصياتها و أحداثها؛ و فضائها؛ فإن خاصية الانفتاح التي تميزها؛ تجعلها قادرة على إثراء مكوناتها السردية؛ في علاقة بنصوص مختلفة؛ بغض النظر عن طبيعتها الأجناسية. و في هذا السياق بالذات يمكن أن نتوقف على بعض التجارب الروائية العربية؛ التي أقامت علاقة تناصية (3) مع نصوص تراثية؛ و يمكننا ضبط انفتاح النص الروائي العربي على التراث؛ من خلال الشكلين التاليين: 2-1 *الانطلاق من نوع سردي قديم كشكل:
و ذلك باعتماده منطلقا لإنجاز نص روائي؛ حيث تتدخل بعض قواعد النوع القديم في الخطاب الجديد؛ فتبرز من خلال أشكال السرد و أنماطه و لغاته و طرائقه . و يمكن التدليل على ذلك؛ بحضور أنواع سردية تراثية؛ كالمقامة و الرسالة و الرحلة ... و ما شابه ذلك من الأنواع السردية؛ كما نجد في (رحلة ابن فطومة) لنجيب محفوظ. و حضور النوع القديم في الرواية؛ يمكن أن يأخذ شكل بنيات سردية صغرى؛ كما يمكن أن يتجسد على صعيد كلي. (4)
2-2 *الانطلاق من نص سردي قديم
بمعنى الانطلاق من نص سردي قديم؛ محدد الكاتب و الهوية؛ و عبر التفاعل معه؛ يتم تقديم نص سردي جديد (رواية)؛ و إنتاج دلالة جديدة؛ لها صلة بالزمن الجديد (زمن الإبداع). و يمكن التمثيل لذلك بحضور نصوص سردية قديمة لكتاب تراثيين؛ في شكل روائي حديث؛ كما هو الشأن مثلا مع (جمال الغيطاني) في روايته " الزيني بركات"؛ كنص روائي؛ دخل في تفاعل مع نص تاريخي؛ هو (بدائع الزهور في وقائع الدهور) لابن إياس. (5)
و سواء من خلال الانطلاق؛ من نوع سردي قديم؛ أو من نص سردي قديم؛ فإن المنطلق دائما هو منطلق تناصي على مستوى استراتيجية الكتابة؛ و في نفس الآن هو رؤية إبداعية واحدة؛ تتخذ التراث (نوعا و نصا) كمنطلق للإبداع الروائي . و لذلك يمكن التعامل مع ظاهرة التأصيل في الروية العربية؛ من منظورين أساسيين؛ يطعم كل منظور منهما الآخر و يثريه:
· المنظور الأول منظور تناصي حديث؛ ينطلق من اعتبار أن الرواية جنس منفتح؛ يقيم علاقات تناصية مع أجناس و متون مختلفة؛ و هذا لا يضرب في انتمائه الأجناسي؛ لأن الرواية في تصورها الحديث؛ لا تقوم على أساس نقاء النوع.
· المنظور الثاني منظور تأصيلي؛ يستحضر أسئلة الفكر؛ ضمن الممارسة الإبداعية؛ من حيث البحث عن خصوصية إبداعية في مجال الكتابة الروائية العربية؛ تنطلق من أسئلة الفكر العربي المعاصر؛ و أهمها سؤال التراث؛ الذي طرح بقوة؛ من خلال مشاريع فكرية رائدة؛ سواء مع محمد عابد الجابري أو مع محمد أركون؛ أو مع حسن حنفي ... و لا يمكن للإبداع الروائي أن يظل خارج هذه الحركية الفكرية؛ باعتبار أن البنيات الفنية في الأخير؛ تقيم علاقات تناظرية مع البنيات الفكرية.
إن استحضار هذه المعطيات (النصية و الفكرية) هو وحده القادر على إضاءة مسار البحث في أسئلة التأصيل في الرواية العربية. و ذلك لأن هذا التيار الروائي؛ استطاع في وقت وجيز –بمعنى زمن التفكير و الإبداع- أن يفرض حساسية إبداعية جديدة و مغايرة؛ في مجال السرد الروائي العربي. و هذا -طبعا- ليس وليد الصدفة؛ و لكن تبريره يوجد في معطيات الحركة الفكرية؛ التي استطاعت فرض أسئلة جديدة على أجندة الفكر العربي؛ و التي ستعمل فيما بعد على صياغة أسئلة الإبداع.
** كاتب و باحث أكاديمي مغربي في مجال الفكر و الأدب