الحلقة الثالثة عشرة
إنّ سلسلة التهم السابقة التي وجّهها الأخ محمد المبارك صاحب (فك الشفرة) للأمير ، انتهت باتهام الأمير عبد القادر بالماسونية!!
فتحت عنوان الأمير في بلاد الشام ، بدأَ التهمة الجديدة ، مستدلاً بأحداث جبل لبنان (اقتتال الموارنة والدروز) والتي امتدت إلى دمشق سنة (1277هـ،1860م) فسعى الأمير عبد القادر في حينها لإطفاء نار تلك الفتنة وتخييب آمال مشعليها ، فعدَّ كاتبُ المقال أنّ في ذلك دليلاً على ماسونية الأمير وعمالته لفرنسا!!!
قال في (فك الشيفرة) :"قبل عام 1860 كان المتصرف العثماني يقيم في جبل لبنان بينما يشرف على جميع لبنان و سورية ، و إثر ما عرف في التاريخ اللبناني بفتنة الجبل تدخل الأمير عبدالقادر للتوسط لدى الدولة العثمانية لصالح (ثورة يوسف بك كرم الماروني في (1859 ـ 1860 م) التي ثارت على داود باشا اول متصرف عثماني على الجبل اللبناني ، و طالبت بالحكم المحلي لموارنة الجبل ، ثم دعت الى التدخل الفرنسي بصوت مطرانها "طوبيا عون" ... وحين أفرزت تلك الفتنة غضباً عارماً في دمشق والشام على المسيحيين الذين راسلوا و جلبوا المستعمر الاجنبي الفرنسي إلى ديار المسلمين ، قام الأمير عبد القادر، باعتراف العديد من قادة تلك الفترة بحماية و إنقاذ حوالي 12000 مسيحي ويهودي احتموا بالأمير من غضب جماعات ثائرة، و قد حمل مع أتباعه السلاح من أجل ذلك . وهو ما دفع العديد من ملوك وقادة تلك الفترة ورجالات الدين إلى منح الأمير أوسمة شرف عرفانا لإنقاذ أرواح عدد من رعاياهم بمن فيهم قناصلة روسيا وفرنسا واليونان وأمريكا و قد انتهت تلك الفتنة بالتدخل الاجنبي الفرنسي ، و بعد تلك الخدمة الجليلة للتاج الفرنسي تهاطلت على الأمير الأوسمة والنياشين من عدد كبير من رؤساء الدول الأوربية ، وعلى الخصوص من نابليون الثالث الذي وشحه وسام الشرف الفرنسي الأول ، ((ونتيجة لذلك أخذت تنتشر في أوربا التآليف التي مجدت الجانب الإنساني للأمير وتسامحه".انتهى
ثمّ راح يستدل بأقوالٍ لماسونيين وصليبيين حاقدين معاصرين!(أمثال : جرجي زيدان ، وأنطوان عاصي ، وشاهين مكاريوس)!!!
وإذا كان بعض الكتّاب ـ غير المسلمين أو غير المتدينين ـ يرضى بأمثال هؤلاء ليحتج بهم على رجال الإسلام ويطعن فيهم ، فما كان ينبغي على الأخ محمد المبارك أن يرضى بذلك!
لأنّ المسلمين أصحاب العقيدة الصحيحة والمنهج القويم ، لا يقبلون أبدًا بأمثال هؤلاء ولا بمن ينقل عنهم ، بل يلقون بهم وبكلامهم ، ولا يرضون إلاّ بكلام الثّقات الأتقياء من أهل الإسلام!
وإنّ كل ما نقله الكاتب عن هؤلاء ، مِنْ أحداثٍ وتحليلٍ لها باطلٌ وغير صحيح ، وكي أُبيّن بطلان تلك المزاعم لا يكلّفني الأمر أكثر من عرض وقائع تلك الحادثة بصدق وأمانة كما وردت في المصادر الموثوقة والمشهورة . وسيظهر للقارئ عندها الحقُ جليًا دون الحاجة لأي شرح أو تحليل.
ولكن هناك أمرٌ هام أريد أن أنبّه عليه : وهو أنّ الأخ محمد مبارك صاحب المقال قام بخلطٍ عجيب للأحداث التاريخية ، وأدخل الوقائع في بعضها على نحوٍ لم يُسبق إليه ، وبعد ذلك أخذَ يستنتج ما يشاء من هذا الخليط العجيب ويصوغه وكأنّه مسلَّمة تاريخية! وهذه مصيبة كبرى!
لذلك سأضطر لتجلية الموضوع حتى يتبيّن له وللجميع حقيقة ما جرى.
أولاً ؛ بدأ الكاتب كلامه متحدِّثًا عن حادثة تاريخية مشهورة وهي المعروفة باسم (فتنة الجبل) سنة 1860م في لبنان والتي امتدت فيما بعد إلى دمشق ، فزعم أنَّ الفتنة كانت بثورة يوسف كرم على المتصرف العثماني "داود باشا" وأنّ الأمير تدخل لصالح ثورة يوسف كرم!! وهذا خلط عجيب! ولن أطيل في شرحه ويكفيني أن أعرض لكم ما قاله الأستاذ خير الدين الزركلي في موسوعته "الأعلام" عن يوسف كرم؛ قال: ((يوسف بن بطرس كرم (1238-1306هـ = 1823-1889م): شجاع لبناني ماروني، يُنْعَت ببطل لبنان. من أهل قرية "إهدن" أقامه الأمير حيدر الشهابي حاكمًا عليها بعد أبيه.
وعيَّنه الوالي "فؤاد باشا" على إثر حادثة 1860م "وكيل قائم مقام" في بلده. ولم يلبث أن اعتزل العمل، طامحًا إلى أن يكون متصرفًا "وطنيًا" للبنان بعد أن تنتهي مدة المتصرف "الأجنبي" داود باشا، فاعتقله "الباشا" فؤاد، ونفاه إلى الآستانة (سنة 1861م) فَفَرَّ (سنة 1864م) عائدًا إلى بلده.
وقلق منه داود باشا فأراد القبض عليه، فقاتله، وكثر أنصار يوسف، وظهرت بسالته، ونشبت بينه وبين العساكر اللبنانية معارك. وتوسط القنصل الفرنسي، فأخرجه "تحت الحماية الفرنسية" إلى فرنسة (سنة 1867م) فتنقل في أوربة. واستقر في "نابلي" بإيطالية، محتفظًا بجنسيته العثمانية، معلنًا أنه لم يخرج على السلطان، بل دفع عن نفسه ظلم "داود" ومات في "نابلي" ونقل أقاربه جثمانه إلى "إهدن" وأقيم له فيها "تمثال" بعد مدة)).انتهى
إذن صار واضحًا الآن أنّ ما يُسمّى ثورة يوسف كرم كانت بعد انتهاء فتنة الجبل المشهورة سنة 1860م ، وخروج يوسف كرم على المتصرف العثماني وقتاله كان سنة 1864م!! ، والذي توسّط ليوسف كرم لدى العثمانيين هو القنصل الفرنسي!! ولم يحدث أي تدخل عسكري أجنبي!!
ثانيًا؛ إليكم الآن وقائع حادثة 1860م (فتنة الجبل) وذلك من المراجع الإسلامية الموثوقة.
وكنتُ أريد الاختصار في عرضها ولكنني رأيت أن أتوسّع قليلاً في ذلك ، والسبب هو أنّه كما يُقال: "التاريخ يُعيد نفسه" وأحداث لبنان اليوم ما هي إلاّ امتداد وتكرار للأحداث التي جرت في السابق (سنة 1841م ثمّ 1845م ثمّ 1860م ثم 1864م ..ثم..) وكان كبير الفاتيكان الذي سبق الحالي قال ضمن كلمة له: ((لبنان أكثر من وطن: إنه رسالة!!)) ، ونحن نرى بوضوح اهتمام الغرب بلبنان واستخدامه دائمًا لزعزعة المنطقة واتخاذه ممرًا لتمرير خططهم ومشاريعهم!! فلعلّنا نستخلص العِبَر!
جاء في التاريخ الإسلامي للعلاّمة محمود شاكر قوله:
((فبعد وفاة الخليفة العثماني محمود الثاني تسلّم الخلافة ولده عبد المجيد الأوّل سنة (1255هـ،1839م) ، وكانت الدولة العثمانية قد بدا ضعفها وكان "محمد علي" الوالي على مصر قد أعلن انفصاله عن الدولة العثمانية وصارت له أطماعه الخاصة وزادت قوّته ، فخشيت الدول الأوربية الاستعمارية (انكلترا وفرنسا والنمسا وبروسيا) من احتمال استيلائه على إسطنبول ، وهنا قد تتدخل روسيا لأنها مرتبطة في ذلك الوقت مع الدولة العثمانية بمعاهدة دفاع مشتركة ، لذا فقد قدّمت دول أوربا لائحة مشتركة من (روسيا وانكلترا وفرنسا والنمسا وبروسيا) تطلب من الخليفة الجديد ألاّ يُقرَّ موضوعاً في شأن يتعلّق بوالي مصر دون الرجوع إليهم ، وفي الوقت نفسه فإنهم مستعدون للتوسط بينهما ، فَقَبِلَ الخليفة اللائحة ، واجتمع السفراء عند الصدر الأعظم وتداولوا الرأي ، وظهر تباين في وجهات النظر . روسيا تريد أن تحتفظ بالمعاهدة الدفاعية مع الدولة العثمانية التي تُبقيها تحت حمايتها ، وانكلترا وفرنسا تخشيان من ذلك وترغبان أن تكون لهما قطعات بحرية في المضائق بحيث تشاركان ، وتمنعانها من التفرّد بالتصرف في شؤون الدولة وحدها . ومن ناحية أخرى فإنّ فرنسا تود دعم محمد علي وأن يحتفظ بما أخضعه ، وانكلترا لا تريد ذلك منافسةً لفرنسا على مركزها في مصر ، وخوفاً من منافستها على طريق الهند ، والنمسا وبروسيا تريان في قوّة محمد علي خطراً على أوربا خشية من أن يُسيطر على الدولة العثمانية ويُعيد لها الحياة ، فهما أقرب إلى انكلترا. وبعد فشل لقاءات ، وتهديدات بالانسحاب ، ودعوة إلى مؤتمرات ، نجحوا في عقد اتفاقيّة عام (1256هـ =1840م) بين انكلترا وروسيا وبروسيا والنمسا بعد انسحاب فرنسا! ومحاولة اتفاقِها مباشرة مع الدولة العثمانية ومحمد علي وتشجيعه على رفض مطالب انكلترا ، ودعمه إن عارضته انكلترا)).
[[طبعًا هذه الأحداث تجري والجيوش الفرنسية كانت قد احتلت الجزائر ودخلت في حروب طاحنة مع الأمير عبد القادر ، وكان الأمير يجاهد الفرنسيين في الجزائر ، ومحمد علي كان يبعث بجنود من مصر لمساعدة الفرنسيين في حربهم على الأمير!!]]
((ولمّا كانت فرنسا قد انسحبت من تلك الاتفاقية ، عادت للتحايل على منافستها انكلترا التي بدأت تحرّض سكان جبال لبنان من دروز وموارنة وغيرهم . وبدأ تحرّك الأساطيل الإنكليزية والفرنسية على سواحل بلاد الشام . وكانت خطّة فرنسا هي دعم الموارنة ومحمد علي لكي تضمن نفوذها في بلاد الشام ، في حين كانت خطّة انكلترا دعم الدروز وتحريضهم على النصارى!!
ولكنّ الحكومة الفرنسيّة ضَعُفت ، وسَحَبَت قواتها البحرية إلى مياه اليونان ثم إلى فرنسا ، وتركت سواحل مصر والشام لسفن إنكلترا ، فاقتصر العمل على إنكلترا مع دعمٍ قليل من النمسا . وأنزلت إنكلترا قواتها شمال بيروت ، وبدأت المعارك ، وهُدِّمت أكثر المدينة وأُحْرِقَت ، وكذا بقيّة الثغور الشاميّة ، وتمكّنت القوات الإنكليزيّة ومَنْ معها من أخذ الموانئ وإجلاء جيش محمد علي.
اعتدى الدروز على الموارنة عام (1257هـ =1841م) ، ودخلوا دير القمر ، وارتكبوا أبشع الأعمال . (طبعاً الأمير عبد القادر مازال في الجزائر!!وليس له وجود في الشام قبل سنة 1273هـ ، 1856م) فَعَزَلَ الخليفةُ الأميرَ "بشير الشهابي" ، ووضع والياً عثمانياً مكانه ، وحُرِمَ الجبل مما كان له من امتيازات ، ولم تقبل الدول الأوربية ذلك ، فاضطر (الخليفة) أن يُعيد للجبل امتيازاته ، وأن يُعيّنَ قائمقام درزي وآخر ماروني وذلك عام (1258هـ) . ولكن الأمر لم يستقم لاختلاط الطوائف في القرى ، فرأى الخليفة ضمّ شمال الجبل ـ أي منطقة الموارنة ـ إلى ولاية طرابلس ، فاحتجّ الموارنة ، فأرسلَ من يدرس الموضوع ويُقدّم الحلول ، فلم يُفد ذلك شيئاً ، وأصرّ الدروز أن يبقى الموارنة تحت سلطانهم ، وفضّل بعدئذ الموارنة أن يتبعوا ولاية أخرى من أن يكونوا تحت سلطان الدروز ، فاستحسن الخليفةُ الرأي ، ولكن لم يُعجب الدروز فقاموا باعتداءاتهم الثانية عام 1261هـ)). (أيضًا الأمير مازال في الجزائر)!!
((وبعد ذلك أرسلت الدولة العثمانية جيوشها واحتلت المنطقة كلّها ، وأعلَنت فيها الأحكام العرفية. ثمّ اتفقت الدول الأوربيّة مع الخليفة على تشكيل مجلس يضم أعضاء من المجموعتين ومن غيرهم . ولم تنته القضيّة إلاّ بمذابح عام 1277هـ/1860م )).
[كانت الدول الاستعمارية تحتال بكل ما تستطيع لكي توجد لنفسها قدمًا في أراضي الدولة العثمانية، ومن تلك الحيل قضيّة حماية رعايا الدولة من النصارى ، وكذلك مقدّسات النصارى!]
((وهاهي فرنسا بحكم الامتيازات القنصلية في الدولة العثمانية تملّكت الإشراف على الكنائس في بيت المقدس ، ثمّ انتقل هذا الإشراف لروسيا بسبب انشغال فرنسا بحروب نابليون ، فلما انتهت فرنسا مما تعاني أرادت العودة إلى ما كانت عليه فحصل خلاف بين رجال الكنائس الكاثوليك والأرثوذكس ، فشكّلت الدولة العثمانية لجنة من رجال كنائس مختلفي المذاهب ، فأقرّوا بحق فرنسا في ذلك فاحتجّت روسيا وهددت بالحرب ... ورفض الخليفة أيضاً من السفير الروسي حق حماية روسيا للنصارى المقيمين في الدولة العثمانية.
وبدأ التوتر يرتفع بين الدولتين وتحركت الأساطيل البحرية وتقدمت الجيوش الروسية ، ثم عقد مؤتمر للتوفيق بين الدولتين ولكن الخليفة رفض مطالب روسيا ، وشجّعت انكلترا وفرنسا الدولة العثمانية في عدم الخضوع لطلبات الروس ، وكان موقف فرنسا وانكلترا ضد روسيا خوفاً على مصالحهم لا حباً بالمسلمين . وجرى اتفاق بين الدولة العثمانية وفرنسا وانكلترا على محاربة روسيا وذلك في (12/6/1270هـ =11/3/1854م) ، واقتضى ذلك الاتفاق أن ترسل فرنسا خمسين ألف جندي ، وتبعث انكلترا بخمسة وعشرين ألفاً ، وأن تجلوَ هذه الجنود عن الدولة العثمانية بعد خمسة أسابيع من الصلح مع روسيا . وبدأت حرب "القرم" ، ثمّ جاءت معاهدة باريس وقبلت روسيا بشروط الدول المتحالفة.
وأعقب ذلك بحث بعض الشؤون الأوربية ، فاتفقوا على تكوين دولة واحدة من إقليمَي "الأفلاق والبغدان"([1]) شبه مستقلّة تُسمى حكومة الإمارات المتحدة وتكون تحت حماية جميع الدول ، أي إخراجها من تَبَعية الدولة العثمانية، ووقع ذلك في باريس عام (1275هـ =1859م) ، وكان الخليفة قد أصدر بعض التعليمات الإدارية في سبيل الإصلاح وهو ما عُرِفَ باسم (الخط الهمايوني) وذلك عام (1272هـ =1856م) .
وأوجدت الدول النصرانية كذلك مشكلاتٍ في الصرب ، والجبل الأسود ، والبوسنة والهرسك ، لتفصلها عن الدولة العثمانية ، فبدأت تقوم الثورات ، وتمنع دولُ أوربا الدولةَ العثمانية من قمع هذه الثورات بتهديد الدولة ، وقطع العلاقات السياسية معها ، بل غالبًا ما كانت الدول الأوربية هي التي تدعم الثورات وتثيرها ، وأصبح سفراء هذه الدول شركاء في السلطة تقريبًا!!
وأُثيرت آنذاك مشكلة جزيرة "كريت" ، وحدَثَ اعتداءٌ على النّصارى في "جُدّة" ، وأُصيب قنصل فرنسا ، وهدَّأ والي "مكّة" الوضع غير أنّ الانكليز قد ضربوا "جُدّة" بالمدافع!)).انتهى[انظر التاريخ الإسلامي لمحمود شاكر الجزء 8 /من ص173 إلى ص181]
كل هذه الأحداث والأمير لم يدخل دمشق بعد! فالأمير رست سفينته في ميناء بيروت في (27/3/1273هـ = 24/11/1856م) .
إذن فرنسا وانكلترا وروسيا وغيرها كانوا يسعون للقضاء على دولة الخلافة العثمانية وكانوا يستعينون بالأقليات النصرانية الموجودة في أراضي الدولة العثمانية لإيجاد الذرائع للتدخل في تلك الأراضي ومن ثَمَّ فصلها عن دولة الخلافة واحتلالها!
فكانت الفتنة الطائفية في الشام : يقول الأستاذ محمود شاكر : ((تساهل السلطان عبد المجيد مع الدول الأوربية فاستقرت الأوضاع في إقليمي الأفلاق والبغدان ، والصرب ، واشتعلت الفتنة في بلاد الشام ، إذ اعتدى الموارنة على الدروز عام (1276هـ =1860م) فقام الدروز يأخذون بالثأر ، وامتد اللهيب من جبل لبنان إلى طرابلس ، وصيدا ، وزحلة ، ودير القمر ، واللاذقية ، ودمشق ... وأسرعت الدولة العثمانية فأرسلت فؤاد باشا، وقضى على الفتنة ، وعاقب المسؤولين عنها ، كلاً بما يستحق ، واحتجّت الدول الأوربيّة وهددت بالتدخل ، وكانت متفرّقة الرأي ، ثمّ أجمعت واتفقت على أن ترسل فرنسا ستة آلاف جندي لمساعدة الدولة فيما إذا عجزت عن إطفاء الفتنة ـ حسب زعمها والحجّة التي اتخذتها ـ وأنزلت فرنسا قواتها في بيروت في (22 المحرّم 1277هـ= 9/8/1860م) بعد اتفاق الدول الأوربيّة الذي تمّ قبل أسبوع (15 المحرم) ، وهذا الاتفاق تَدَخَّلَ في شؤون الدولة التي أحسَنَت القيام بمهمّتها لكن كان القصد تقوية النصارى ، وإظهارهم بمظهر القوة ، وأنّ أوربا كلّها من خلفهم ، لتزداد قوتهم ، ويخشى خصومهم بأسهم . وجرى الاتفاق مع فؤاد باشا على أن يعوّض النصارى على ما خسروه ، ويُمنح أهل الجبل حكومةً مستقلّةً تحت سيادة الدولة ، وأن يرأس هذه الحكومة رجل نصراني لمدّة ثلاث سنوات ، ولا يحق عزله إلاّ برأي الدول الأوربية ، وتقترحه الدولة العثمانية ، وتوافق عليه أوربا ، وقد اختير أوّل حاكم "داود الأرمني" ... هذا التساهل قد ألزم فرنسا بالانسحاب من الشام ، إذ أخلت المناطق التي دخلتها في (27/11/1277هـ) أي بعد عشرة أشهر وخمسة أيام من دخولها .
وتوفّي الخليفة العثماني عبد المجيد في (17/12/1277هـ) )).انتهى [من التاريخ الإسلامي8/181ـ182]
وقال الشيخ عبد الرزاق البيطار في كتابه (حلية البشر في تاريخ القرن الثالث عشر) :
((وقعت فتنة بين الدروز والنصارى في جبل لبنان واشتد بسببها الضرب والطعان، وعاثت طائفة الدروز وفسقوا، وانتظموا في سلك الطغيان واتّسقوا، ومنعوا جفون أهل الذمة السّنات، وأخذوا البنين والبنات من حجور الأمهات، وخرّبوا القرايا والبلدان، وسفكوا الدماء وحرقوا العمران، ونهبوا الأموال ومالوا عليهم كل الميل، وبادرت لمساعدتهم والغنيمة معهم دروز الجبل الشرقي تجري على خيولها جري السيل، ولم يروا في ذلك معارضًا ولا منازعًا، ولا مدافعًا ولا ممانعًا، والنصارى بين أيديهم كغنم الذبح، هم وأموالهم وأولادهم وبلادهم غنيمة وربح، ودام هذا الأمر واستقام، إلى ابتداء ذي الحجة الحرام، سنة ست وسبعين بعد الألف والمائتين، وقد هرب كثير من النصارى إلى الشام، ظانّين أن الحكومة تحميهم من الدروز اللئام، فصارت الدروز تدخل إلى الشام بأنواع السلاح، ويخاطبون الأشقياء بقولهم كنا نظن بكم الفلاح، لقد أخلينا البَرَّ من النصارى، وأنتم عنهم كأنكم سكارى، فاذبحوهم ذبح الأغنام، وأذيقوهم كأس الحمام، واغنموا ما عندهم من الأموال والأمتعة الكلية، وأن الحكومة بذلك راضية مرضية، ولو لم يكن لها مراد بذلك، ما مكنتنا من إذاقتهم كؤوس المهالك، والوالي ساكت عن هذا الأمر كأنه لم يكن عنده خبر، حتى ظن أكثر القاصرين أن هذا الواقع عن أمر شاهاني صدر.... وما زالت الأشقياء تتطاول أعناقها، وتتزايد لهذه الأفعال أشواقها، والدروز في كل وقت يجددون لهم همة، ويتواردون عليهم أمة بعد أمة، وقد قامت لديهم الأفراح، وزالت عنهم برفع القيد الهموم والأتراح........... وصاروا يتكلمون بكلام، لا يليق إلا بالأشقياء اللئام، كقولهم حنا يقول لنخلة، إسماعيل الأطرش حرق زحلة، وأمثال ذلك خصوصاً مما يدل على التخويف والتهديد، وصارت الأولاد تقوله على طريقة الأناشيد، فذهب بعض النصارى إلى والي البلد، لينقذهم من هذا الهم والنكد، وكان ذلك يوم الاثنين من ذي الحجة الحرام، سنة ألف ومائتين وست وسبعين من هجرة سيد الأنام، فأمر الوالي بالقبض على بعض الأولاد، فمسكوا منهم جملة وقيدوهم بالحديد وأمروهم بالكنس والرش تأديبًا لهم عن هذا الفساد، فقامت عصبة جاهلية في باب البريد من الجهال الطغام، ونادوا بأعلى صوتهم يا غيرة الله ويا دين الإسلام، وكان الوقت قبيل العصر من ذلك اليوم المرقوم، وتلاحقت الأشقياء إلى حارة النصارى كأنه لم يكن عليهم بعد ذلك عتب ولا أحد منهم على فعله مذموم، وأقبلت عليهم الدروز أفواجاً أفواجا، واشتغلوا بالحرق والقتل والسلب والنهب أفراداً وأزواجا.....................
والوالي ما زال على إهماله، وسكوته وعدم سؤاله، غير أنه عين للمحافظة أربعة من الأعيان، اثنين من المدينة واثنين من الميدان، فقام من كان من الميدان حق الحماية، وقصر من عداهما في البداية والنهاية، غير أن سعادة الأمير المعظم، والكبير المفخَّم، حضرة الأمير السيد عبد القادر الجزائري قد بذل كامل همته في ذلك، وبذل أمواله ورجاله في خلاص من قدر عليه من المهالك، واستقامت النار تضطرم في حارة النصارى سبعة أيام، والناس فوضى كأنه لم يكن لهم إمام، فلما أحضروا من أحضروه من النصارى إلى الميدان، وقد امتلأت البيوت أخذنا نطوف عليهم نهنيهم بالسلامة ونطيب قلوبهم بالأمن والأمان، وكنا ما نرى منهم غير دمع سائل، وبصر جائل، وقلب واجف، ورجاء قليل وبال كاسف، وهذه تقول أين ولدي؟ وهذه تقول قد انفلق كبدي، وهذه تقول مالي، وهذه تقول كيف احتيالي؟ والرجال منهم حيارى وترى الناس سكارى وما هم بسكارى...
ولما علم دروز الجبل الشرقي أن أهل الميدان، قد أدخلوا النصارى في حصن الأمان، ووضعوهم في أماكنهم مع عيالهم، واجتلبوا لهم سرورهم بقدر الإمكان وراحة بالهم، تجمعوا وتحزبوا وتوجهوا إلى الشام، إلى أن وصلوا إلى أرض "القدم" بالكبرياء والعظمة والاحترام، ثم أرسلوا خبراً إلى الميدان إمّا أن تسلمونا النصارى لنذيقهم كؤوس المنية، ونبيدهم بالكلية، وإما أن ننشر بيننا راية القتال، ونطوي بساط السلم واستقامة الحال، فبرز أهل الميدان إليهم بروز الأسد، وقالوا لهم بلسان واحد ليس لكم على قتالنا من جَلَد، أظننتم أنكم تصلون إليهم، وتحكمون بما تريدون عليهم، إن ذلك أمر محال، إياكم أن تتوهموه بحال، إننا وحق من أحيا الأشباح بالأرواح، لا نسمح لكم منهم بقلامة ظفر وليس لكم في مطلوبكم من نجاح، وكثر القيل والقال، وكانت البيداء قد امتلأت من الفرسان والأبطال، وتجمع الصفان، وتقابل الصنفان، وارتفع العجيج وعلا العجاج، وكثر الضجيج من كل الفجاج، وأشْهَرَ كلٌ سلاحه، واعتقد أن في قتل عدوه فلاحه، وأن شرر الموت ينقدح من ألحاظه، ويفصح بصريح ألفاظه، فلما رأى الدروز ما كان، من المشاة والركبان من أهل الميدان، علاهم الوجل، وقد خاب منهم الأمل، وضاق بهم من الأرض فضاؤها، وتضعضعت من أركانهم أعضاؤها، فتنازلوا عن العناد إلى الوداد، وقالوا نحن العين وأنتم لها بمنزلة السواد، وليس لنا عنكم غنى، وأنتم لنا غاية المنى، ونزيلُكم عندنا مصون، ومن كل ما يضره مأمون، والذي وقع منا كان هفوة مغفورة، وسقطة هي بعفوكم مستورة، فقابِلوها بالسماحة والغفران، ونحن وإياكم أحباب وإخوان، ثم تفرقوا بعد الوداع، وانقاد كل منهما للسلم وأطاع، وتفضل الله وأنعم، وحسم مادة الشر وتكرم...
ولا زال أهل الميدان في الليل والنهار، يحرسون النصارى من الأشقياء والأشرار، إلى السادس والعشرين من محرم الحرام، دخل الشام محمد معمر باشا ومعه أربعة آلاف جندي من عسكر النظام، وفي غرة محرم سن سبع وسبعين، دخل خالد باشا المصري للنظر في أمر هذه الخيانة، وكان قبل دخوله بيوم قد سافر أحمد باشا المذكور أولاً إلى بيروت متوجهاً إلى الآستانة، وفي حادي عشر المحرم الحرام، دخل ناظر الخارجية فؤاد باشا إلى الشام، مرخَّصاً من قبل الدولة وباقي الدول، مهما شاء أجرى ومهما أراد فعل، ومعه عوضاً عن أحمد باشا المترجم المذكور عبد الحليم باشا المشير المشهور، واجتمع بالشام من العساكر السابقة واللاحقة نحو ثلاثين ألفاً، ثم بعد ثلاثة أيام، أمر بعقد مجلس عام، وطلب فيه مأخوذات النصارى ومسلوباتهم، ومغصوباتهم ومنهوباتهم، وذلك يوم الخميس خامس عشر المحرم، وشدد غاية التشديد، وأكد أعظم تأكيد، ولما أصبح صباح الجمعة سادس عشر المحرم، وجد الناس أثمان الشام قد امتلأت من العساكر، وقد أغلقوا أبواب البلد ولم يعرف أحد ما الأمر إليه صائر، فدخل على الناس من الهم والكدر، ما هو عبرة لمن اعتبر)).انتهى [انظر (حلية البشر) للبيطار 1/261ـ267] (وقد كان للشيخ البيطار رحمه الله ، دورٌ بارز وموقف حميد في إخماد هذه الفتنة).
هذا عرضٌ تاريخي مختصر لتلك الأحداث ، ولكن ما هو دور الأمير عبد القادر الجزائري فيها؟
لقد كان للأمير عبد القادر دور هام في السيطرة على نتائج تلك الحوادث.
أوردتُ في الحلقة الثانية قولَ المؤرخ المحقق الدكتور أبي القاسم سعد الله ، وهو : ((أنّ الماسونيّة تآمرت على دولة الأمير عبد القادر في الجزائر ، لأنّ دولة الأمير كانت دولة عربيّة سلفيّة ، شريفة ، لو انتصرت لكانت خطرًا عظيمًا على مخططات الماسونية ـ الصهيونية في الشرق!!، ولكانت أوَّل دولة توحِّدُ العربَ على كلمة الجهاد كما وحّدتهم عليها زمنَ الرسول صلى الله عليه وسلم ، وزمن الخلفاء الراشدين)).انتهى [الحركة الوطنية الجزائرية ص274ـ275].
إذن فالأمير كان متيقظًا للمخطط الاستعماري الذي تسعى الصليبيّة العالمية والصهيونية اليهودية لتنفيذه ، وأساس هذا المخطط هو القضاء على دولة الخلافة الإسلامية ، واقتسام أراضيها وممالكها في الشرق والغرب وجعلها تحت حكمهم. وكان الأمير على خبرة بأساليب المستعمرين التي يحتالون بها للوصول لأغراضهم. وخلال مدّة حربه مع فرنسا في الجزائر أدرك الأمير مدى أهمية بلاد الشام للدول الأوربيّة ، والمساعي التي تبذلها تلك الدول لاحتلال تلك البلاد .
وبعد وصول الأمير إلى دار الخلافة واستقراره في "بروسة" قرر السلطان العثماني عبد المجيد خان أن ينتقل الأمير إلى دمشق ، وذلك لأن السلطان أدرك أن وجود الأمير في دمشق سيكون مفيداً لدولة الخلافة .
(((وبالفعل فبعد انتقال الأمير إلى دمشق شعر بالتحركات الأوربية في بلاد الشام ، ولمّا بدأت أحداث جبل لبنان راح الأمير يحذّر رؤساء البلد من عاقبة اشتعال هذه الفتنة ، وما هي العواقب المترتبة عليها، وكيف يمكن للغرب أن يستغلّ هذا الحدث ، بل وحتمية وقوف الغرب نفسه وراء هذه الفتنة ، وكان يحثهم على بذل المجهود في درء هذه الفتنة ، لكن لم تلق كلماته آذانًا صاغية ، ولا قلوباً واعية!)))
(((ففي سنة (1276هـ،1860م) مازالت تلك الفتنة تتعاظم وتشتعل نيرانها والدولة العثمانية غير ملتفة إلى تسكين تلك الفتنة ، إلى أن وصلت نارها إلى دمشق وبدأ الغوغاء من الناس بالتعرض للمسيحيين بالضرب والقتل ، وكان موقف والي دمشق أحمد باشا ورؤساء الجند سلبياً من الفتنة وذلك لقلّة عدد الجند ، لكنّه قدّم لرجال الأمير المساعدة والسلاح . وتحرّكت إِحَنُ المسلمين على النصارى وتذكروا ما نالهم من "حنّا بك البحري" وطائفته من الاعتداء أيّام دخول جيش مصر بقيادة إبراهيم باشا ابن محمد علي فقام بعض المشايخ والوجهاء في دمشق وشجعوا الغوغاء على قتل المسيحيين ، وسبب ذلك هو تجبر النصارى وتكبرهم وتجاوزهم حدّهم وخروجهم عن العهود الذميّة، وتعلّقهم بالدول الإفرنجيّة! وكذلك بسبب المرسوم السلطاني المسمّى بـ(الخط الهمايوني) الذي تضمّن بعض الامتيازات للنصارى على حساب المسلمين))).انتهى ملخصًا[انظر (تحفة الزائر) 2/93، و(نخبة ما تسر به النواظر) ص251]
وقد صدر هذا المرسوم كما مرّ معنا سابقاً تحت ضغط من الدول الأوربيّة، قال تشرشل :"فالدول المسيحية ، بانتزاعها من الترك قانون (خط همايون) سنة 1856م ، قد جعلتهم يضعون السكين على رقبتهم".انتهى [حياة الأمير لتشرشل ص278]
يقول محمد باشا: ((والباعث للأمير على حمل تلك المشاق تأييد الدولة العليّة والدفاع عن حوزتهاإذ لو لم يقف في وجوه الغوغاء لاستأصلوا النصارى واستلحموهم وتفاقم الأمر أكثر مما وقع وبذلك يحصل للدولة من الارتباك ما لا يخفى ، ولعناية الله بصاحب الخلافة العظمى ورعايته لسلطنته لم يقع أدنى خلل يتشبّث به الأعداء لإلحاق الضرر بالدولة العليّة ، ولم يزل الأمير يعاني المشاق إلى أن حضر صاحب الدولة فؤاد باشا وزير الخارجية إلى دمشق ، ولأوّل وصوله أجرى فيها حكومة عرفية خارجة عن القوانين المعتادة فقبض على ألوف من أهلها حتى امتلأت بهم السجون وأمر برد المسلوبات وعيّن لذلك مجالس مخصوصة في محلات البلدة وأنحائها فجمعوا أغلبهم ، وأجرى ما أمر بإجرائه من إمعان النظر وتحقيق الدعاوي ثم فعل ما رآه صواباً واقتضته السياسة ، فقتل من ثبت عليه القتل أو قامت عليه البينة بأنه أثار الفتنة أو وافق عليها ونفى جماعة من الأعيان والعلماء لتقصيرهم عن تدارك الأمر وكف أيدي الغوغاء ... )) انتهى[تحفة الزائر 2/94]
ويقول السيد أحمد بن محيي الدين الحسني : ((ومن الأشخاص الذين قررَ فؤاد باشا أن يشنقهم : الشيخ عبد الله الحلبي ، وعمر أفندي الغزي ، وعبد الله بيك من رؤساء المجلس ، ومفتي البلد طاهر أفندي ، ونقيب الأشراف العجلاني وغيرهم من وجوه البلد وأكابرها . فلما سمع الأمير بذلك ذهب إلى فؤاد باشا وعارضه كل المعارضة ، فقال له فؤاد باشا : لابُدّ من ذلك ولا مندوحة عمّا هنالك . لأنّ إطفاء نار تلك الفتنة لا يتم إلاّ بقتل أولئك الأشخاص . وما زال الأمير يُعارضه ويُراجعه إلى أن قَبِلَ رجاءَهُ فيهم وصرف عنهم القتل إلى النفي المؤبّد ، فنُفيَ بعضهم إلى قبرص ، وبعضهم إلى جزيرة رودس . وبعد نفي أولئك أمر فؤاد باشا بقتل الوالي أحمد باشا ومعه بعض باشاوات العسكر.
وإنما عارض الأمير كل المعارضة في دفع القتل عن المذكورين لنِسْبَة بعضهم إلى العلم والبعض إلى الشرف ، وفي قتلهم إهانة للدين المحمدي . . وما دافع الأمير عن تلك الجماعة ـ مع شدّة عداوتهم له وهم الذين أمروا بإحراق بيته ـ إلاّ لكون موتهم ثلمة في الإسلام)).انتهى [مخطوط(نُخبة ما تُسر به النواظر..) ص254]
إذن الدّول الأوربيّة الصليبيّة أوجدَت هذه الفتنة لتكون ذريعةً لها في احتلالها لبلاد الشام وفصلها عن الدولة العثمانية ، ولم تكد تلك الفتنة تبدأ حتى رأينا القادة والملوك الغربيين يطالبون الدولة العثمانية بحماية المسيحيين وإلاّ سيتدخلون بجيوشهم لحماية إخوانهم في الدين (زعموا) ، وما هي إلاّ أيام حتى رأى الناس الأسطول الفرنسي يرسو في ميناء بيروت ويُنزل قواته الغازية!!
وفي هذا أكبر دليل على النية المبيّتة والتخطيط المسبق لهذا الغزو ، وما قضية المسيحيين إلاّ ذريعة ؛ وما أشبه اليوم بالأمس!
وكانت فرنسا قد استطاعت إقناع أوربا أن تتولى هي أمر هذه الحملة بسبب قربها المذهبي من المسيحيين في لبنان ، ولكونها المشرفة على الكنائس في بيت المقدس ، في حين لم تستطع إنكلترا فعل ذلك لأنها على خلاف كبير في المذهب مع نصارى الشرق (فالإنكليز برتوستانت ، ونصارى الشام أرثوذكس وكاثوليك) ، لذلك عمدت إنكلترا لدعم الدروز حتى يكون لها مدخل في البلاد لتفويت الفرصة على منافستها فرنسا ، والنتيجة واحدة بالنسبة للمسلمين ، ففرنسا وإنكلترا في النهاية أعداء لهم! (المهم أنّ التحرّك الفرنسي كان بمباركة الإنكليز!!)
ومن الأدلّة على ضلوع فرنسا في الفتنة وأنها هي المُشعلة لها ، أنّ الأمير عبد القادر أثناء قيامه بإطفاء تلك الفتنة والسيطرة على الأوضاع ومطاردة الغوغاء الذين هجموا على حي العمارة حيث دارُ الأمير التي يحتمي بها بعض النصارى ، ألقى رجالُه القبضَ على بعض المهاجمين ، فإذا فيهم عدد من المسيحيين اللبنانيين!!! نعم نصارى لبنانيون متنكرون بلباس المسلمين يقومون بقتل النصارى في دمشق. لماذا؟ لكي يعطوا فرنسا الذريعة لاحتلال البلاد بحجة الدفاع عن النصارى![انظر كتاب(أصحاب الميمنة إن شاء الله) ص215]
وهذا التصرف ليس جديدًا ، فعلى مرّ العصور كان المستعمرون يلجؤون لقتل بعض رعاياهم أو أبناء دينهم ويلصقون التهمة بالمسلمين (أو غيرهم) لكي يتسنى لهم تهييج شعوبهم وحملهم على القتال والاحتلال. والأمثلة في عصرنا هذا كثيرة كما لا يخفى.
وعندما بدأت الدول الأوربيّة تحرّكها وأرسلت إلى الدولة العثمانية تستنكر ما يجري في الشام ، تكفّلت الدولة العثمانية للدول الغربية بأنها ستنتقم من الذين أشعلوا الفتنة وتقتصّ لرعاياها من النصارى ـ وذلك لكي لا تعطي للدول الأوربية الفرصة للتدخل في بلاد الشام ـ فبعثت فعلاً فؤاد باشا (كما مرَّ معنا) أحد وزرائها العظام وفوضت إليه الأمر في جميع ما يفعل ، فلما دخل الشام أمر برد الأموال المنهوبة ، ثم شرع بالقبض على كل من سعى في تلك الفتنة فقتل منهم مَنْ قتل ، ونفى من نفى. وانطفأت الفتنة.
(((ومع ذلك فإنّ الدول الأوربيّة ؛ التي كانت عازمة على احتلال بلاد الشام ؛ تظاهرت بأنها لم تقنع بما فعلته الدولة العثمانية ، وأرسلت جيوشها ومراقبيها تحت قيادة الأسطول الفرنسي الذي رسا في ميناء بيروت ، وما كان يخشى الأمير عبد القادر حدوثَهُ قد حدث فعلاً ، فقد نزلت القوات الفرنسية في ميناء بيروت وتوجهت قواتها بريًا باتجاه جبال الدروز بحجّة القضاء عليهم ، فتدخل الأمير لدى فؤاد باشا وطلب منه أن يبذل كل جهده في منع الجيش الفرنسي من تقدّمه ، وبيّن له أن هذا الأمر إذا بدأ فإنه لن ينتهي إلا باحتلال سورية ، لأن القتال في الأماكن الجبلية صعب وسيستغرق زمناً طويلاً ، ومِنْ ثَمَّ ستجلب فرنسا إلى المنطقة أعدادًا كبيرة من الجنود ومع الوقت سيكون لديها الاستعداد الكامل لغزو المنطقة!(فالأمير خبير بالخطط والحيل الفرنسية)!
وجرت مفاوضات بين فؤاد باشا والجنرال الفرنسي "بوفور" إلاّ أنهما لم يتفقا. فقرر الجنرال الفرنسي الزحف باتجاه دمشق والتي سيبدأ بقصفها أولاً!
فلمّا بلغ الأمير أن قائد الحملة الفرنسية الجنرال بوفور يريد قصف دمشق من الصالحيّة ، تمهيدًا لدخول دمشق ، بعث الأمير برسالة لبوفور يطلب منه أن يوافيه في البقاع. وتوجّه الأمير ليلاً ومعه بعض أتباعه إلى معسكر الجيش الفرنسي واجتمع بالجنرال وأظهرَ له سوء عاقبة ما اعتمد عليه ، فأصرَّ الجنرال على قصف دمشق ودخولها ، فهدَّدهُ الأمير وقال له إنّهم إذا قصفوا دمشق أو حاولوا دخولها فإن العهود التي بينه وبين دولة فرنسا تصبح لاغية ، وأنه سيكون أوّل المدافعين والمقاومين لأي حملة فرنسية تهاجم البلاد ، وسيعود للجزائر ويباشر الجهاد هناك من جديد! فعندها عدلت فرنسا عن قصدها ورجعت الجيوش الفرنسية إلى بلادها خائبة وبلا طائل!))).انتهى [ (نُخبة ما تُسر به النواظر..) ص258، و(تحفة الزائر) 2/95] .
وهكذا استطاع الأمير عبد القادر بحنكته ، وبُعْدِ نظره ، والتزامه الكبير بالمسؤولية وبأوامر الشريعة الإسلامية ، أن يحافظ على تماسك الدولة العثمانية ، ويُبطل المخطط الأوربي لاقتطاع بلاد الشام من الدولة العثمانية ، ويمنع جيوش فرنسا من دخول الشام ويردّها على أعقابها خائبة.
ولمّا رأى فؤاد باشا شجاعة المغاربة وما جُبِلوا عليه من قوة الجأش وشدّة الإقدام فاوض الأمير في أن يعيّن منهم كتيبة ليكونوا في خدمة الدولة العليّة ، فوافق الأمير على طلب فؤاد باشا واختار منهم أربعمئة فارس وجعل السيد محمد بن فريحة رئيسًا عليهم.
ولمّا بلغتْ أخبارُ هذه الواقعةِ الهائلة حَضْرَةَ الخليفة العثماني عبد المجيد خان ، وما صنعه الأمير في سبيل طاعة الخليفة وأداء واجب خدمته ، أظهر الخليفة رضاه العالي بفعله وأنعم عليه بالنيشان المجيدي العالي الشان من الرتبة الأولى وأرفق معه فَرَمَانًا وحملهما إلى الأمير الصدرُ الأعظم علي باشا، وإليكم نصّ الفرمان:
((قد أحاط علمي الشريف السلطاني بحال الحميّة الدينيّة الثابتة في أصل فطرة الأمير عبد القادر الجزائري ، زيدَ فضلُه ، وخلوصه الأكيد الوطيد لطرف دولتي العليّة ، وقد اضطره كل منهما لاستعمال الهمّة والغيرة الكليّة الفائدة في الخدمة المرغوبة وهي تخليص عدد كثير من تبعة دولتي العليّة الواقعين بأيدي الأشقياء الظالمين عند وَقع الفتنة والعناد مؤخرًا في الشام من بعض ذوي التوحش الجاهلين بالوظائف العليّة الإسلاميّة والأحكام الجليلة الشرعيّةوحيث أنّ حركته الحسنة قد استوجبت لدى سلطنتي زيادة المحفوظيّة ووقعت موقع الاستحسان ولأجل حسن توجهاتي السلطانية الحاصلة في حقّه والمكافأة العلنيّة على خدمته الخيرية الواقعة ، أحسنتُ إليه بنيشاني المجيدي الهمايوني من الرتبة الأولى ، وأصدرتُ له فرماني السلطاني المعلوم المؤْذن بالمكارم الملوكانية في أول صفر الخير سنة سبع وسبعين ومئتين وألف)).انتهى
فسُرَّ الأمير بهذا الإنعام السلطاني ورفع إلى حضرة الخليفة كتابًا يشكره فيه ويلخص له ما حدث ، جاء فيه : ((...ثمّ لمّا وقعت حادثة الشام وانتُهِكت محارم الله بلا احتشام ،وتعيّنَ على كل فردٍ من العباد بذل المجهود في دفع ذلك الفساد ، قمتُ بأداء ما قدرت عليه من هذه الفريضة العينية ؛ والنيّةُ الصحيحة في ذلك تحصيلُ رضاء الله تعالى ثمّ طاعةُ الدولة العليّة...)).انتهى [الرسالتان مثبتتان في (تحفة الزائر) لمحمد باشا 2/96ـ98]
وتوالت مكاتيب الشكر وقصائد التهنئة بالورود على الأمير من الدول والأدباء والشعراء والعلماء والأعيان اقتداءً بالدولة العثمانية.
ومنها رسالة من قائد الثورة في الداغستان والشيشان الشيخ (محمد شامل الداغستاني) رحمه الله ؛ ونصّها:
((..إلى من اشتهر بين الخواص والعوام ، وامتاز بالمحاسن الكثيرة عن جملة الأنام ، الذي أطفأ نار الفتنة قبل الهيجان ، واستأصل شجرة العدوان ، رأسها كأنه رأس شيطان ، المحبّ المخلص السيد عبد القادر المنصف ؛ السلام عليكم وبعد : فقد قرع سمعي ما تمجّه الأسماع ، وتنفر عنه الطباع ، من أنه وقع هناك بين المسلمين والمُعاهَدِين ما لا ينبغي وقوعه من أهل الإسلام ، وربما كان يُفضي إلى امتداد العناد بين العباد في تلك البلاد ، ولذلك عند سماعه اقشعرّ منه جلدي ، وعبست طلاقة وجهي ، وقلتُ (ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس) ، وقد تعجبتُ كيف عميَ من أراد الخوض في تلك الفتنة من الولاة عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم "ألا من ظلم مُعَاهَدًا أو انتقصه حقّه أو كلّفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئًا بغير طيب نفس ، فأنا حجيجه يوم القيامة"وهو حديث حسن ، ثمّ لما سمعتُ أنّك خفضت جناح الرحمة والشفقة لهم وضربت على يد من تعدّى حدود الله تعالى وأخذت قصب السبق في مضمار الثناء واستحقيت لذلك ، رضيتُ عنك والله تعالى يرضيك يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون لأنك أحييت ما قال الرسول العظيم الذي أرسله الله رحمة للعالمين ، ووضعتَ من يتجرّأ على سنّته بالمخالفة نعوذ بالله من تجاوز حدود الله ، ولكوني ممتلأً بالرضى عنك كتبتُ إليك إعلاماً بذلك . والسلام . حرر سنة 1277هـ شامل الغريب)).انتهى
فأجابه الأمير برسالة جاء فيها : ((الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى سائر إخوانه من النّبيين والمرسلين ، إنه من الفقير إلى مولاه الغني عبد القادر بن محيي الدين الحسني إلى الأخ في الله تعالى والمُحب من أجله الإمام شامل كان الله لنا ولكم في المقام والرحيل وسلام الله عليكم ورحمته وبعد ، فإنه وصلني الأعز كتابكم وسرّني الألذ خطابكم ، والذي بلغكم عنّا ورضيتم به منّا من حماية أهل الذمة والعهد ، والذَّب عن أنفسهم وأعراضهم بقدر الطاقة والجهد ،هو كما في كريم علمكم مقتضى أوامر الشريعة السّنية، والمروءة الإنسانية ، فإنّ شريعتنا متممة لمكارم الأخلاق ، فهي مشتملة على جميع المحامد الموجبة لائتلاف اشتمال الأطواق على الأعناق . والبغيُ في كل الملل مذموم ومرتعه وخيم ومرتكبه ملوم ولكن :
يُقضى على المرء في أيام محنته **** حتى يرى حسنًا ما ليس بالحسنِ
فإنّا لله وإنا إليه راجعون على فقد أهل الدِّين وقلَّة الناصر للحق والمعين ، حتى صار يظنُّ من لا علم له أنّ أصل دين الإسلام الغلظة والقسوة والبَلادة والجفوة ، فصبرٌ جميل والله المستعان ..
حرر في أول جمادى الأولى 1277)).انتهى [انظر (تحفة الزائر) ص114ـ 115]
إن الناظر في كلام الأمير في جوابه للسلطان وللشيخ شامل يرى بوضوح أنّ الأمير يشرح سبب موقفه من أحداث 1860م بأنه الالتزامُ بأوامر الشريعة الإسلامية في دفع الفساد ، والعدلُ مع أهل الذمة ونصرةُ خليفة المسلمين ، وكلامه صحيح ولا يستطيع أحدٌ إنكاره ، فالواجب على كل مسلم عاقل أن يعتمد هذا الكلام ، فهو كلام ثابت صحيح صرّح به الأمير نفسه وهو موافق للشريعة. وأما ما سواه فهو كذب ومفترى وتأباه الشريعة!
ـ والآن ما هو موقف فرنسا وإنكلترا وباقي دول أوربا الصليبيّة؟تلك الدول التي كانت بالأمس تصرخ وتنادي بالدفاع عن المسيحيين في بلاد الشام وحرّكت جيوشها وأساطيلها لهذا الغرض ، وها هي ترتد خائبة لم تصنع شيئًا للمسيحيين وتركتهم دون إمدادهم بالقوة التي وعدتهم بها! بل رضيت بالتدابير العثمانية ، التي كانت ترفضها من قبل!
وحقيقة الأمر أنّ الدولة العثمانية المسلمة هي التي حمت النصارى في الشام (سواء من رعاياها أو من الأجانب) وأنقذتهم من الفتنة ، وكذلك فإنّ الأمير عبد القادر الجزائري الذي تعرفه الشعوب الأوربيّة بوصفه قاهرَ فرنسا وجيوشها الصليبيّة ، والمدافع عن حمى الإسلام والمسلمين في الجزائر ، والمتعصّب لدين الإسلام ، هو الذي تولّى أمر إطفاء الفتنة وإنقاذ المسيحيين أفرادًا ورجال دين. عملاً بأحكام الشريعة الإسلاميّة! وقد كافأته الدولة العثمانية وشكرت صنيعه.
وفي الوقت نفسه هو الذي أحبط المخطط الأوربي ، وخيّب مساعي الجيش الفرنسي ، وفوّت الفرصة على الصليبيين لتقويض دعائم الخلافة الإسلاميّة. وهذا ولّدَ غيظًا شديدًا في صدور ملوك فرنسا وأوربا على الأمير ، الذي ظنّوا أنهم قد استراحوا منه ، وقضوا على حركته المقاومة لهم.
وبالمقابل فإنّ سكوت حكّام الدول الأوربيّة سيفضح أمرهم أمام نصارى الشرق ويكشف كذبهم وادّعاءهم الغيْرَة على أبناء دينهم ، وسيُعرّي أغراضهم الدنيئة ، ومطامعهم الجشعة ، التي هم على استعداد لسفك دماء أبناء دينهم في سبيل تحقيقها!! فما العمل؟
لم يكن أمام ملوك وحكّام أوربا حلٌّ يخرجهم من ورطتهم إلاّ أن ينضموا إلى صفوف المباركين والمهنّئين والشاكرين والمادحين للأمير عبد القادر.
فبدأت كتب الشكر والنياشين والأوسمة والهدايا الاعتبارية ، تتوالى على الأمير من الملوك والقياصرة. وسأثبتُ لكم نصوصها نقلاً من كتاب (تحفة الزائر ص99):
1 ـ {صورة المرسوم الممضي بخط يد قيصر الروس المرسَل صحبةَ النيشان}
((نحن اسكندر الثاني إمبراطور وافطركراطور جميع الروسيين .. إلى آخر الألقاب.
إلى الأمير عبد القادر ، اقتضت رغبتنا أن نُشْهِرَ التفاتنا إليكم بشهامتكم وعملكم بما اقتضته الإنسانيّة، واجتهادكم في إنقاذ ألوف المسيحيين من أهالي دمشق ، الذين وُجدوا في خطر عظيم.
اقتضى الحال أننا سمّيناكم من أعظم فرسان رتبتنا الإمبراطورية الملوكانية المشهورة بالنسر الأبيض ، وهذه علامتها واصلة إليكم ونحن لم نزل باقين على المحبّة لنحوكم بالاعتبار الإمبراطوري الملوكي.
حُرر في بطرسبورج في يناير سنة ستين وثمانمئة)).انتهى
2ـ {صورة ما كتبه ملك اليونان}
((نحن "أوتون" بنعمة الله ملك اليونان قد أعطينا الأمير عبد القادر النيشان الكبير رتبة أولى من صنف نيشاننا الملوكي ، المدعو بنيشان المخلص. المؤرخ يوليه سنة 1833 وأرسلناه إليه ليحمله ويستعمله بمقتضى أمرنا ، وبناءً على ذلك أصدرنا له هذا المرسوم ممضيًا منا ، ثمّ من وزير بلاطنا الملوكي والتعلقات الخارجية. حرر في أثينا بتاريخ سبتمبر 1860)).انتهى
3ـ {صورة المرسوم الممضي بخط ملك بروسيا صحبة النيشان}
((نحن غليوم بنعمة الله تعالى ملك بروسيا .. إلى آخر الألقاب. قد منحنا الأمير عبد القادر بن محيي الدين نيشان صليب النسر الأحمر من الطبقة الأولى. وقد أعطينا إرادتنا هذه لأجل تملّكه الحقيقي لهذا الوسام ، حاوية توقيعنا وإمضانا مع الختم الملوكي من بالسبيرج في 12/11/1861)).انتهى
4ـ {نص تحرير ملك إيطاليا}
((إنّ عظيم تصرّفكم في أمر المسيحيين في الحوادث الشاميّة قد أثبتت أمام أوربا أنّكم ممن حاز المزايا الحربية العظيمة ، خصوصًا في الحادثة الدمشقية ، التي أنقذتم فيها النفوس الكثيرة ، فكان ذلك حلية لنفسكم الكريمة المصطفاة ، ثم إنه يوجد بيني وبينك أيها الأمير العزيز ، مواصلة أفرحُ بذكرها وهي محبّة الحريّة التي تجعل تابعيها محافظين على العدالة الحقيقيّة ، وإذا كنتَ في أيّامك السابقة لم يمكنك الحصول على النجاح التام على حسب مرغوبك ، فهذا لا يكون مانعًا لاكتسابك ـ بالنظر لشجاعتك القوية ـ الاحترام والاعتبار من جانب أهل الحرب المعاصرين لك ، والذين يقاتلون في صالح استقلالية الشعوب. ونظرًا لشهادتي بهذا الاحترام المخصوص لشخصك الكريم ، فأنا مرسل إليك الآن الشريطة الكبرى ، نيشان موريس والعاذر ، وهو أقدم نياشين الخيولية والفروسية ، وهو يسلّم لك على يد اثنين من ضباطي ، وهما الكاواليردي كاستيلونو ، والكونت دي كاستيلونيه ، القادمين إلى حضرتك لأجل هذا الأمر . وإني أوصي بهما شديد اعتنائك ، وأرجو أن تصادفك السعادة فيما بين يديك أيها الأمير السعيد ، نظير النّدا الذي يقطر من السماء ليعطي الإقبال إلى الأرض ، والمأمول قبول هذا الدعاء مني لأجلك في المستقبل ، كما أرجو أن تعتقد تمام محبّتي.
حرر في مدينة تورين بتاريخ سبتمبر سنة 1860
محبّك فيكتور عمانوئيل )).انتهى
5ـ {نص ما كتبه وزير خارجيّة فرنسا}
((أيها الأمير السامي ، إنّ خبر الحوادث الشاميّة قد طرق مسامع الدولة الفرنساوية ، وإجابة لطاعة مولاي الإمبراطور وإرادته ، بادرتُ الآن بإعلان اعتباره السامي والتشكر الوافر من طرف جلالته على السعي الذي تكرّمتم به على الأهالي المسيحيين والراهبات والمبعوثين الفرنساويين وجمهور القناصل بتلك الواقعة المحزنة.
والمزية العظيمة في ذلك هي مشاهدة همتكم العليّة التي جعلتكم وقاية لحياة ألوف المساكين ، وجعلت محلّكم ملاذًا لهم في وقتٍ كان الأشقياء الخارجون عن الطاعة يرتكبون القبائح المخالفة لأوامر الباري تعالى ، ولما تقتضيه الإنسانية. أما الإمبراطور نظرًا لمعرفته بعليّ همتكم وكرم أخلاقكم ، فإنه لم يتعجب مما أظهرتموه من الإقدام في ذلك الوقت الضنك ، وهو الآن يشعر بداعٍ ذاتي يدعوه إلى أن يخبركم عن فرحه الشديد الذي أثّر فيه تأثيرًا قويًا بإجراء ما أجريتموه ، وأنا أرجوكم قبول التهاني الشخصية مني التي أضيفت ، أيها الأمير السامي ، تأكيدات سمو اعتباري لحضرتكم في 31/8/1860)).انتهى
ثمّ حضرَ رئيس المترجمين في دائرة الوزراء الفرنساوية مبعوثًا من لدن الإمبراطور إلى حضرة الأمير وقدّم إليه نيشان "الليجون دونور" المرصّع من الرتبة الأولى ، وبلّغه اعتبار الإمبراطور وسائر الفرنساوية لمقامه العظيم.انتهى ["الليجون دونور" تعني: وسام الشرف].
6ـ {نص تحرير قنصل دولة إنكلترا في دمشق}
((إلى عظمة الأمير السيد عبد القادر. المعروض لسعادتكم أنني قد أُمرت من الحكومة الإنكليزية الفخيمة أن أبيّن لكم حاسّيتها الفائقة ، نظرًا لما أظهرتموه من حقوق الإنسانية بتخليص جماعة كبيرة من المسيحيين ، الذين لولا ذلك لهلكوا بين أيدي أهل القَسَاوة في المذبحة الأخيرة بدمشق ، وبسلوك عظمتكم عرفت الحكومة الإنكليزية مقامكم الرفيع للغاية ، ثم أعرض أنّ هذا الشرف الذي صيّرن