الحلقة الرابعة
نلاحظ أن الأخ محمد المبارك في مقاله (فك الشفرة) إذا ذَكَرَ الشيخ محيي الدين الحسني وسبب التفاف الشعب الجزائري حوله قال : هو شيخ الطريقة القادرية ، وإذا تكلّم عن ثقافة الأمير عبد القادر قال عنه إنه كان يُعد لاستلام الطريقة القادرية بعد أبيه ، ولمّا تكلم على جهاد الأمير ونهايته وضع له عنواناً (نهاية الحركة القادريّة!!)
أقول : أيها الإخوة إن والد الأمير عبد القادر وكذلك جدّه كانا من الصوفيّة ولهم طريقة هي القادريّة ، هذا أمر لا ينكره أحد . ولكن أن يُقال إنّ الشعب الجزائري التفّ حول الشيخ محيي الدين لأنه قادري فهذا بعيد .
أولاً هناك عدّة طرق كانت منتشرة في الجزائر والقادريّة ليست أوسعها بل التجانية هي أوسع الطرق انتشاراً وكذلك الشاذلية والدرقاوية والرحمانية وغيرها كثير ..
فلماذا يلتف الشعب حول القادرية فحسب ويترك باقي الطرق؟ مع العلم أنّ الذين بايعوا السيد محيي الدين كانوا من مختلف الطرق!
والحقيقة كما أسلفت أن سبب التفاف الشعب حول السيد محيي الدين هو كونه من أعلى وأثبت الأشراف الأدارسة نسباً في تلك الأقطار ، ولأنّه من أهل العلم ومن أهل الصلاح والرأي ، كما ترجم له علماء المسلمين .
ثمّ إن اقتصار الكاتب على وصف السيد محيي الدين بأنه شيخ الطريقة القادريّة ، لا يُعطي الصورة الحقيقية للرجل .
فكل من ترجم للسيد محيي الدين وصفه بالعالم العامل ، المشتغل بتدريس الفقه والحديث والتفسير واللغة وغيرها من علوم الشريعة ، إضافة إلى تصوّفه .
إذن فهناك فرق بين السيد محيي الدين ، وبين من يسمون بشيوخ الطرق الصوفية ، الذين ليس لهم أي نصيب من العلم والمعرفة ، وإنما حسبهم أنهم يجمعون الناس في زواياهم لأورادهم وأناشيدهم والرقص الصوفي والأكل والشرب .
إنّ زاوية السيد محيي الدين وصفها العلماء بأنها كانت معهداً للعلوم الشرعيّة يدرّس فيها جميع أصناف العلوم . (وللفائدة فإنّ مذهب السيد محيي الدين هو محاربة الرقص الصوفي "الحضرات")
فإذا أردنا أن نصف السيد محيي الدين بإنصاف فإننا نقول عنه : إنه من أهل الدين ، صاحب علم وعمل ، وجمع إلى ذلك النسب الشريف والخلق الأصيل وكان له معهد للعلوم الشرعيّة ، وكان صوفيًا تلقى الطريقة القادريّة ونشرها ، وأجاز الناس بأورادها ، ولكنه متفقه بالمذهب المالكي ومنضبط به .. وهو من الذين يصنّفون ضمن ما يُسمِّيه الأستاذ سعد الله (بالتصوف السلفي) ؛ لا أن نقتصر على وصفه بالقادري وانتهى الأمر ، لأننا بذلك نكون قد وجّهنا أذهان القراء إلى صورة واحدة (وهي الطرقيّة أو التصوف الجاهل).
[من الذين وصفهم الأستاذ سعد الله بأنهم من دعاة التصوف السلفي ، الشيخ عبد الرحمن الأخضري، والشيخ محمد بن علي الخروبي ، والشيخ أحمد زروق ، والشيخ عبد الكريم الفكون . انظر تاريخ الجزائر الثقافي 1/507؛ 527؛530]
والعجيب من الكاتب أنه لمّا تكلّم عن ثقافة الأمير قال : إن والد الأمير كان يُعدّه لمشيخة القادرية من بعده!!!! وأنا أسأله ما مصدر معلوماتك عن هذا الأمر؟
يقول الدكتور أبو القاسم سعد الله : ((إن الأمير عبد القادر فوق الطرق الصوفية كلها ، أي إنه كان يعمل من أجل فكرة أشمل وهي الدين والوطنية)).انتهى[الحركة الوطنية الجزائرية ص400]
قال الكاتب : ((لقد كان الأمير عبدالقادر ذا ثقافة علمية واسعة ، فقد كان أبوه الشيخ محيي الدين يُعِدُّه لمشيخة الطريقة القادرية من بعده ، وحتى تكتمل صورة الأمير عبد القادر، فقد تلقى الشاب مجموعة من العلوم فقد درس الفلسفة (رسائل إخوان الصفا - أرسطوطاليس - فيثاغورس) ودرس الفقه والحديث فدرس صحيح البخاري ومسلم، وقام بتدريسهما، كما تلقى الألفية في النحو، والسنوسية، والعقائد النسفية في التوحيد، وايساغوجي في المنطق، والإتقان في علوم القرآن))انتهى
والسؤال : هل هذه العلوم يتلقاها من يُعدّ ليصبح شيخ طريقة؟!
وأقول للكاتب من أين علمت أنه درس رسائل إخوان الصفا؟ ففيما قرأتُه عن الأمير من تراجم لم أجد أحدًا ذكرها ، مع أنهم ذكروا الكثير مما لم يورده الكاتب أصلاً! وسؤالي ليس استنكارياً وإنما يهمني أن أعرف المصدر.
يقول شارل هنري تشرشل : ((إن الأمير قرأ أعمال أفلاطون ، وفيثاغورث ، وأرسطو ، ودرس كتابات مشاهير المؤلفين من عهود الخلافة العربية عن التاريخ القديم والحديث ، وعن الفلسفة ، واللغة، الفلك ، والجغرافية ، بل حتى عن الطب ، وقد تجمّعت لديه مكتبة ضخمة)).انتهى [حياة الأمير عبد القادر ص47 . تفرّد تشرشل بذكر كتب أفلاطون وفيثاغورث وأرسطو!!]
لقد قرأتُ في كتاب الدكتور أبي القاسم سعد الله (تاريخ الجزائر الثقافي) 1/520 ، كثيراً من التعليقات على زوايا الطرق الصوفية التي كانت منتشرة في تلك الأيام ، وكان ينقلُ كلام العلماء المعاصرين لتلك الزوايا والطرق والمنتقدين لبعض شيوخها وانحرافهم وتعاونهم مع الاستعمار ، ولما وصل إلى الحديث عن جدّ الأمير وهو الحاج مصطفى والطريقة القادريّة ، وصفه بأنه من علماء الوقت وصلحائه وأنه أنشأ زاوية بغرض أن تكون مركزًا للتعليم ومبعثًا للطريقة القادريّة ، وبعد وفاته تولى أمر الزاوية ولده السيد محيي الدين الذي كان من شيوخ العلم المشهود لهم ، وأصبح الشيخ محيي الدين يلقن أوراد الطريقة القادرية وينشر العلم من الزاوية التي كانت عبارة عن معهد ...إلى أن قال : كما أن القادرية قد اندمجت غداة الاحتلال في تيار الحركة الوطنية مستعملة نفوذها الروحي للدعوة إلى الجهاد ضد الفرنسيين)).انتهى كلام سعد الله .
ولم يذكر أي طعن فيه أو في زاويته كما فعل بباقي الزوايا والطرق . وما ذلك إلاّ للفرق الكبير بينها .
ملاحظة :[ينبغي أن نفرّق بين العلماء أو الفقهاء المتصوّفين الذين تلقوا أورادًا لبعض الطرق الصوفية ، وبين رجال الطرق (الطرقيين) الذين ـ في أغلبهم وعامتهم ـ جهّال وأصحاب أغراض شخصية ، ويعتمدون على الدجل والشعوذة!!]
وقال الدكتور سعد الله في معرض كلامه عن الأمير: ((.. إن المقاومة قد أخذت عليه كل الوقت وأصبح رمزاً لجمع الكلمة وتوحيد الشعب تحت راية الوطنيّة وليس مرابطًا يلقن أوراد الطريقة القادرية)).انتهى [المرجع السابق1/522]
والآن سأعرض لكم بعض النقول العلمية المتصلة بالموضوع :
أولاً ؛ ترجمة السيد مصطفى بن محمد بن المختار الراشدي الحسني ؛
ترجَمَهُ حفيدُه السيد أحمد الحسني فقال : ((كان رحمه الله عالماً عابداً زاهداً يُلقّب بسيبويه الإقليم ، وكان يحفظ كتاب التصريح على التوضيح للشيخ خالد الأزهري عن ظهر قلب كحفظه الفاتحة ، وأَقْرَأَ ألفيّة ابن مالك قراءة تحقيق وبحثٍ وتدقيق في محلٍّ واحد ثماني عشْرة مرّة ، وأجازه إجازة عامّة الشيخ مرتضى الزَبيدي صاحب "تاج العروس" وكتَبَها له في نحو كرَّاسة ، وقد كانت له المشيخة التّامة على جميع علماء الإقليم وكانت له الكلمة المسموعة عند الباي محمد حاكم وهران ، وقد كان المذكور يُجلّه ويُوقّره وجعلَ له رئاسة المسجد الكبير "بمُعسْكَر" .
ثمَّ انتقَلَ إلى وادي الحمام واختطَّ به قريةً سمّاها الراشديّة ثمّ غلَبَ عليها اسم "القيطنة" وذلك سنة 1198هـ وبنى بها مسجدًا ومحلاًّ لقراءة القرآن العظيم ومحلاًّ لطلبة العلم ، وعيّنَ لهم مصروفًا من عنده في كل يوم ، وتوفّي سنة اثنتي عشرة ومئتين وألف (1212هـ) عن ثلاثٍ وستين سنة عند ماءٍ يُعرف بعين غزالة)).انتهى [ترجمته في (نخبة ما تُسر به النواظر) لأحمد الحسني ص120]
ـ وقال عنه الشيخ عبد الرزاق البيطار في (حلية البشر) : ((الفاضل الإمام والكامل الهمام ، كعبة الأفاضل ومعدن الفضائل ...)).انتهى
ثانيًا ؛ ترجمة السيد محيي الدين بن مصطفى (والد الأمير) ، قال عنه العلاّمة جمال الدين القاسمي : ((كان عالماً زاهدًا عابدًا مربيًا صوفيًا تشدّ إليه الرِّحال ، ذا أُبّهة وصولة وعظمة ، وقد كساه الله تعالى من الهيبة والعظمة عند أهل إقليم الجزائر ما لم يتفق لغيره ، وكان مقصوداً لقضاء الحوائج الدينية والدنيوية ..)). انتهى من كتاب (تعطير المشام) .
وقال عنه الشيخ عبد الرزاق البيطار : (( هو الشيخ العالم العامل ، والفرد الأوحد الفاضل ، بقيّة السلف .... العفيف الحسيب والشريف النسيب ..)) .انتهى انظر (حلية البشر).
ومما قاله فيه الأستاذ المهدي البوعبدلّي في بحثه بعنوان " وثائق أصيلة تُلقي الضوء على حياة الأمير عبد القادر" نُشِرَ في مجلّة الثقافة التي تصدرها وزارة الثقافة الجزائريّة وفي عددها الخاص بالذكرى المئويّة لوفاة الأمير عبد القادر العدد 75 رجب وشعبان 1403 أيار ماي 1983
((" ... وهناك وثائق من بينها مرثيّة لأحد تلامذة الشيخ محيي الدين ، ضمّنها الفنون التي كان يدرّسها الشيخ محيي الدين بمعهد القيطنة ، التي أسسها والده السيد مصطفى بن المختار الذي كان بدوره أمثلَ فقهاء عهده وأدبائه ، وقد تركَ عدّة رسائل بخطّه . وهي تعطينا صورة حقيقيّة عن ثقافة السيد محيي الدين ، وتُبيِّن أنّ معهد القيطنة لم يقتصر على تعليم القرآن ومختصر خليل ، بل كانت تدرس فيه فنون كالتفسير والحديث وعلوم اللغة ، وصاحب هذه المرثيّة هو العالم المحدّث الشيخ محمد بن معروف الونشريسي المتوفى في تونس سنة 1265هـ كما ذكرَ ذلك تلميذه علي بن الحاج موسى إمام ضريح الثعالبي بالجزائر في عهده ، وقد هاجر من الجزائر بعد الاحتلال وكان الأمير كلّفه بترشيح القضاة بناحية "شْلف" و " ونشريس " وقد عثرنا على وثائق تُثبت ذلك ، وهذه بعض الأبيات من المرثيّة المذكورة :
يـحقّ لجفني أن تسيلَ دموعُه ****** علـى سيدٍ ذي حكمة وبراعـة
سما وارتقى وسادَ أهل زمـانِه ****** بذا يشـهدُ العدول كالمستفيضة
إلى أن قال :
ترى كتُبَ ابن حاجب وخليلنا ***** وألفيّة ابـن مـالك مـع غنية
وسـعد وسـلّم وجمع جوامع ***** وتفسير ما يتلـى كتاب وسنُّة
يقولون: من لنا بكشف رموزها ***** وحلّ غريب اللفظ عند القراءة
ومعرفةِ الصحيح من ضده إذا ***** تعارضت الآثار مـن غير ميزة
إلى أن قال :
فيا أسفي علـى ربيع قلوبنا ***** مزيل الصدا عنها بعلم وحكمة
ويا أسفي على خليفةِ مالكٍ ***** إمامنا محيي الدين شيخي وقدوتي
وُلِدَ رحمه الله سنة تسعين ومئة وألف وتوفّي يوم الأحد سنة تسع وأربعين ومئتين .
هذه ترجمة مختصرة لوالد وجدّ الأمير ، وأمّا تراجم باقي آبائه وأجداده المذكورين في سلسلة نسبه الإدريسي الحسني ، فهي مثبتة في كتب التواريخ والتراجم وغيرها ، وقد جمعتُها في كتاب أُعِدُّه للتعريف برجال وأعلام أسرة الأمير عبد القادر ، وكذلك أبحث فيه السيرة الذاتية للأمير بحثًا تاريخيًا ، وأتعرّض فيه للشبهات التي أثيرت حوله ، وما هذه الحلقات إلاّ اختصار لبعض مباحث هذا الكتاب ، وأسأل الله أن ييسر لي إتمامه قريبًا.
وما ذكرته في هذه الحلقة من تراجم ونقول إنما هو بيانٌ يوضِّح بعض الحقائق ؛ حتى تكون الصورة كاملة عند القارئ ، وفيه فوائد تاريخية.
ولكن الأمر العجيب حقًا هو قول الكاتب واصفاً نهاية جهاد الأمير عبد القادر (الأمير الشرعي للجزائر) المبايع من قبل الشعب الجزائري ، والذي دام 17 عاماً ، بقوله ((نهاية الحركة القادرية))!!!
سبحان الله! ماذا سيُفهم من هذا العنوان؟
ومن أين أتى بهذا الوصف؟ ومن سلفه فيه؟ وما هي مراجعه ومصادره؟
الذي يُفهم منه أنّ الكاتب سمّى قيادة الأمة والبيعة للأمير وحمل راية الجهاد بالحركة القادرية!! وعدَّ نهاية الحرب بأنها نهاية للحركة القادرية!!
والذي يُفهم من كلامه أنّ جهادَ الصليبيين المعتدين ، وجمع كلمة المسلمين والقيام بشؤون الدولة الإسلامية إنما هي تعاليم الطريقة القادريّة فحسب! ولذلك فإنّ الأمير لمّا أُسقط في يديه وحوصر واضطر إلى التسليم ، انتهت بذلك الحركة القادرية وانتهت أطول وأعنف مرحلة كفاح عسكري تعرّض لها الفرنسيون في الجزائر . وهذا حقًا؛ كلام عجيب!!!
وكان يكفي الكاتب أن يعنون لتلك الفقرة كما عنون لها كل المؤرخين والعلماء من جميع المشارب بـ (انتهاء مرحلة المقاومة الجزائرية بقيادة الأمير عبد القادر) .
ـ ومن أغرب ما وصف به كاتب المقال الأمير قوله : ((و ممَّا يُؤخذ على الأمير حبه للمال و السلطة الذين يخلطهما بحب العفو و المسامحة في أحيان كثيرة ((.انتهى
لماذا لا يذكر لنا الكاتب مصادره التي يستقي منها معلوماته؟! فهذا الوصف لا يصدر إلاّ عن شخص معاصر للأمير يعرفه عن قرب ، فمن أين حصل الكاتب على معلوماته هذه؟
المعروف عن الأمير والمشهور عنه أنه كان متقشفاً لا يلبس إلاّ البسيط من الثياب ، ويُرى عليه ثوب واحد سنواتٍ طويلةً لا يغيّره! والمشهور والثابت عنه كثرة إنفاقه للمال في وجوه الخير ، وقد مات وعليه ديون من كثرة ما كان يمنح الناسَ ، علماءَهم وعامَّتَهم .
وانظروا كيف كان أعداء الأمير عبد القادر يصفونه!
يقول أحد المؤرّخين الفرنسيين : ((..كان احتقاره للثروة وعزوفه عن مظاهر البذخ من المظاهر المميزة لشخصيّته)).انتهى [(المقاومة الجزائرية تحت لواء الأمير عبد القادر) لإسماعيل العربي ص218]
ويقول الجنرال بيجو (وهو من ألدّ أعداء الأمير) واصفاً الأمير : (( .. وقبل أن أدخل في الحديث معه، أخذتُ أتأمّل وجهه وكسوته لحظة . إنه شاحب اللون ، وصورته قويّة الشبه بالصورة التقليدية المعروفة للمسيح . وعيناه مثل لحيته ، كستنائيّة اللون . ومظهره العام يدل على التقوى والخشوع . وهو بعد النظرة الأولى يخفض عينيه ثم لا يحدّق في الأشياء أبداً . وأما كسوته فهي عادية ومستعملة في حدود ثلاثة أرباعها . إنه لمن الواضح أنّ الرجل يلتزم التقشّف والبساطة)).انتهى [المصدر السابق ص160ـ 161] .
ومليحة شهدت لها ضرَّاتها ***** والفضل ما شهدت به الأعداء
ويقول الكولونيل تشرشل : ((لقد كان عبد القادر معارضًا لكل المصاريف التي تصرف فيما لا فائدة فيه ، حتى إنَّ المبلغ الذي اعتاد المسلمون أن يخصصوه للاحتفالات والمهرجانات في أهم الأعياد الدينية ، وجَّهه هو إلى أغراض خيرية . ففي مناسبة ختان أحد أبنائه استغرب أهل (بروسة) أنه بدلاً من المسيرة الغالية العادية ، مع كل ما تستلزمه من أُبَّهة وبهرجة الفرسان والأعلام والموسيقا ، كان هناك جمعٌ من الفقراء مجتمعين أمام منزله يتلقون من يديه هدايا الخبز والملابس والنقود . إنّ هذا كان في عين عبد القادر أفضلَ احتفال بهذه الشعيرة المقدسة)).انتهى [حياة الأمير عبد القادر ص275].
وقد ذكر هذه الحادثة محمد باشا فقال : ((التمس (الأمير) من أعيان البلد (بروسة) أن يقيّدوا له أولاد الفقراء المحتاجين للختان فقيّدوا (يعني كتبوا) نحو الخمسمئة ، فأمر بختانهم (مع أبنائه) على نفقته ... وتعجب أهل بروسة لأن من عادة أعيانهم أنهم يحتفلون للختان وسائر الأفراح بضرب الموسيقا والطبول والزمور ، والأمير احتفل بكثرة الصدقات والمبرات فترى جماهير الفقراء والمحتاجين حول داره يتناولون أنواع الأطعمة والألبسة والدراهم ، وكانوا على كثرتهم يرفعون أصواتهم بالدعاء له ، وهو يقول اربعوا على أنفسكم واشكروا الله تعالى)).انتهى [تحفة الزائر 2/62]
وأمّا علماء المسلمين الذين ترجموا للأمير ، فقد وصفوا شدة كرمه وسخائه وزهده . وسيأتي مزيد من التوضيح لهذه المسألة لاحقاً .إن شاء الله
******************************
قال صاحب (فك الشفرة) : ((ورحل الأمير عبد القادر إلى الشرق براتب من الحكومة الفرنسية ، وبوعدٍ غير واضحٍ من الإمبراطور الفرنسي بتنصيبه إمبراطوراً على البلاد العربية)).انتهى
أقول : لماذا لا يذكر لنا الكاتب مصادر معلوماته؟
والمعلومة الجديدة هي وعد نابليون بتنصيب الأمير إمبراطوراً على البلاد العربيّة!!
لقد طالعت كثيرًا من الكتب (العربية والأجنبيّة) التي تحدّثت عن قصة تسريح الأمير ، وليس في واحد منها هذه المعلومة!
ومما يُذكر في هذا المقام ، أنّ الإمبراطور الفرنسي نابليون الثالث عندما قرر إطلاق سراح الأمير من سجنه ، أمر الماريشال "بيجو" أن يكتب للأمير يخبره بأنّ الحكومة الفرنسية كانت تريد أن تطلق سراحه وترسله إلى مكّة حيث يريد ، ولكن الأصوات في مجلس العموم أجبرتها على ترك ذلك، وأنه ربما تمضي سنوات عديدة ولا يتيسّر له التوجه إلى المواضع التي طلبها ، ثمّ أشار بيجو على الأمير فقال : ((أشير عليك .. أن توطّن نفسك على جعل فرنسا وطنًا لك ، فتطلب من الحكومة أن تعطيك أملاكًا جيدة في أرضها ينتج لك منها ما تعيش به كواحد من كبرائها مع مداومتك على أداء وظائفك الدينية كما تريد وبلوغ مرادك في تربية أولادك .... فهذا ما أشير به بحسب حقوق الإنسانية وبالخصوص عليك لِمَا ألمَّ بك من المصائب مع اتصافك بالصفات الحسنة التي وهبها الله لك، راجيًا قبول تحياتي المقدمة مع الإكرام والاحترام .في 28/1/1849م))
فأجابه الأمير بقوله : ((لو جمَعَت فرنسا سائرَ أموالها ثمّ خيّرتني بين أخذها وأكون عبدًا ، وبين أن أكون حرًّا فقيرًا مُعْدمًا ، لاخترت أن أكون حرًّا فقيرًا ، فلا تراجعوني بمثل ذلك الخطاب فإنه ليس عندي بعد هذا الخطاب جواب ، وإلى الله تُرجعُ الأمور ، وبيده كشْفُ هذا الديْجور)).انتهى [تحفة الزائر 2/26ـ27] ، (وكان عمر الأمير في حينها 41 عامًا!)
وما ترويه كتب السياسة المعاصرة هو أنّ الدولة العثمانية لمّا توالت هزائمها أمام روسيا وغيرها ، وبدأ الوهن والضعف في حكمها وسقط كثير من الأقطار التي كانت تحت سلطتها (ومنها الجزائر) ، قامت في بلاد الشام طليعة من دعاة الاستقلال وبحثوا مصير سورية ، وعقدوا المؤتمرات السريّة في دمشق سنة 1877م (وكان عُمر الأمير في حينها 72 عاماً!) واقترحوا فصل البلاد عن الدولة العثمانية ، وتنصيب الأمير عبد القادر مليكاً عليها ، لأنهم وجدوا فيه الحلّ الأمثل للوضع البائس الذي كانت عليه البلاد ، لما يتمتّع به الأمير من هيبة واحترام عند العثمانيين والعرب على حدٍّ سواء! وعندما عرضوا على الأمير هذا الموضوع لم يتحمّس له ، ولم يرفضه ، ولكنّه نصح أن يظلّ الارتباط الروحي بين البلاد الشاميّة والخلافة العثمانية قائماً ، وأن يبقى السلطان العثماني سلطاناً على الشام أيضاً.
وأمّا المشروع الفرنسي الجديد الذي ظهر سنة 1870م !!!والذي كان يرمي إلى إنشاء إمبراطوريّة عربيّة تمتد من شمالي بلاد الشام حتى قطاع عكّا يرأسها الأمير عبد القادر ، فقد رفضه الأمير بشدّة!
وهذا معروف عند المتابعين لتلك الشؤون في ذلك الوقت .
لقد رفض الأمير عبد القادر هذا المشروع لأنّه مطلب فرنسي استعماري . وبعد سبع سنوات ، عندما ظهر المشروع العربي القومي تردّد في قبوله ، كان عدم تحمّس الأمير لهذا الأمر ناشئاً عن احترامه لمبدأ الخلافة الإسلاميّة . ثم جاء مؤتمر برلين وتولّى عبد الحميد الخلافة وأصبح سلطاناً فتأخّر الحلّ العربي .
أما علماء المسلمين المتابعون لشؤون الأمير ، أمثال الشيخ عبد الرزاق البيطار ، وجمال الدين القاسمي، وأديب الحصني ، وجميل الشطي ، وأمثالهم فلم يذكروا شيئاً عن ذلك أبداً . حتى إنّ السياسي الكبير والمؤرخ المخضرم الأمير شكيب أرسلان صاحب الاطلاع الكبير وشبكة المعارف الواسعة ،لم يشر إلى شيء من ذلك عند ترجمته للأمير في حاضر العالم الإسلامي!!
ولكي أزيل اللبس أقول مختصرًا ما قاله المؤرّخون لتلك الحقبة :
عندما خُلِّي سبيل الأمير عبد القادر كانت الدولة العثمانية مقطّعة الأوصال ، وبدأت تخسر ممالكها الواحدة تلو الأخرى ، وأصبح السلطان العثماني مضطراً إلى التساهل مع الدول الأوربيّة والخضوع للكثير من رغباتها ، وفي الوقت نفسه كثُر المفتونون بأوربا وأنظمتها ضمن رجالات السلطان المتنفّذين وكانوا من المعادين للحكم الإسلامي ، كما قويت الدعوات القوميّة والعصبيّة التركية ، وزاد النفوذ اليهودي في الدولة ، وزاد اتفاق الدول الأوربيّة على ضرورة الإجهاز على الدولة العثمانية ، هذا إضافةً إلى تردي الأحوال المعيشية في بلاد الشام وشدّة جَور الولاة على الناس ، وظهور الحروب الطائفيّة ، ثمّ انتصار الروس على الدولة العثمانية. في هذه الأجواء عقد زعماء بلاد الشام مؤتمر دمشق السري للنظر في استقلالها عن العثمانيين ، واجتمع رأيهم على تنصيب الأمير عبد القادر أميراً عليها : ((ورأوا فيه أملهم الوحيد ، لأنه الشخصية التي تستطيع إقناع الأتراك بحق العرب في الاستقلال ، وهو الذي يمكن أن تتفق عليه كلمة الدول الأوربيّة ذات المصالح المتصارعة في المنطقة بعد ما قام به أثناء الفتنة ، وفوق كل ذلك فهو المجاهد ذو النسب الشريف والعالم ذو المقام الرفيع والمحايد الذي يمكن أن تهابه وتنضوي تحت لوائه مختلف الطوائف والملل والعشائر في المنطقة)).انتهى[مقدمة "حياة الأمير عبد القادر" لسعد الله ص26]
ومع ذلك لم يتحمّس الأمير لذلك ، وما هي إلاّ أيام ويتسلّم السلطان عبد الحميد الثاني الخلافة وبدأ يبطش بكل من يدعو إلى اعتماد الفكر الغربي ، واهتمّ بالجيش وقَوَّى مركز الخلافة ، وأخذ يدعو للجامعة الإسلامية ، فعندها ارتاح الأمير واطمأن وصار يرفض أي عرض له بتسلُّم الحكم إلى أن مات . [وقد عاصر الأمير خلال وجوده في الشرق أربعة من الخلفاء العثمانيين هم : عبد المجيد وعبد العزيز ومراد الخامس وعبد الحميد الثاني]
هذا الذي أقول هو كلام شديد الاختصار لأنّ الحديث عن تلك الحقبة يقتضي وقتاً طويلاً وليس محل بحثنا الآن ،
ولكن إليكم بعض النقول التاريخيّة للاستئناس ؛ جاء في كتاب"التاريخ الإسلامي" للأستاذ محمود شاكر 8/185 : ((ومن الذين فُتنوا بأوربا وأفكارها رجال كان لهم دور خطير في الدولة أمثال أحمد مدحت باشا رئيس مجلس الدولة ، وصاحب اليد الأولى في خلع الخليفة عبد العزيز وقتله، وفي خلع الخليفة مراد الخامس . وهؤلاء المفتونون كانوا بعيدين عن معرفة الإسلام ، لذا كانوا يتّهمون الخلفاء بالحكم المطلق ، ويُطالبون بوضع دستور للدولة إذ يريدون أن تكون على نمط الدول الأوربيّة النصرانية ، وأن يكون دستورها من وضع البشر بالشكل الذي عليه الدساتير الأوربيّة ، ولا يقبلون أن يكون القرآن الكريم (كتاب الله) دستور الأمّة ، وهو الذي يحدّ من تصرفات الخليفة وصلاحياته ، وما ذلك إلاّ عِداءً للإسلام ، وانبهاراً بالحياة الأوربيّة ، وانهزاماً نفسياً ، وتحقيقاً للشهوات والأهواء الذاتية .
وزاد النفوذ اليهودي في الدولة مع أطماع اليهود ، ومع تَسَلُّم يهود الدونمة عدداً من المراكز الرئيسيّة، وقد نسيَ الناسُ أصلَهم وحقيقتهم ، وطبيعة اليهود ، إذ أظهروا الإسلام وعاشوا مع أبنائه واختلطوا بهم ، يؤدّون الصلاة أمامهم بل يُؤدّون الحج ..
وزاد اتفاق الدول الأوربيّة على الإجهاز على حياة الرجل المريض ، إذ كانوا يطلقون هذا اللقب على الدولة العثمانية ، وإن ظهرت الاختلافات بين تلك الدول ، فظهرت روسيا من جهة ، والدول الأخرى من جهة ثانية .
في وسط هذه التيارات والأمواج المتلاطمة تسلّم عبد الحميد الثاني الخلافة ..)).انتهى
ويقول الدكتور أبو القاسم سعد الله : ((وإذا صدقنا ما جاء في كتاب "سطور من رسالة" فإنّ الأمير كان لا يرفض الدعوة التي تجعل منه رأسًا للحركة ولكنه كان يرى أنّ الوقت لم يحن بعد وأن الفكرة في حاجة إلى نضج ،... ولا ندري إن كان الأمير جسّ نبض الموضوع مع السلطات العثمانية وممثلي الدول الأجنبية في المنطقة قبل اتخاذ موقف نهائي . ومهما يكن الأمر فإن الدولة العثمانية قد دخلت من جديد في حرب مع اليونان ، وجاء مؤتمر برلين (1878) وتولى السلطنة عبد الحميد الثاني (1876) ، وتقدمت السن بالأمير ، فتجمّد المشروع مؤقتاً)). انتهى [مقدمة(حياة الأمير عبد القادر) ص27]
ومرّ معنا سابقاً ما قاله الأستاذ سعد الله : ((..وأخذ سلاطين آل عثمان " يُنظّمون" دولتهم المتداعية فإذا الإصلاحاتُ مفاسدٌ ، وإذا الأعداءُ هم المصلحون جالسين يملون على (السلطان) محمود وعبد المجيد وعبد العزيز وأنور(باشا) ومصطفى أتاتورك ما عليهم أن يفعلوا وما عليهم أن يتركوا)).انتهى
إذن المؤرخون المتخصصون لا يستطيعون الجزم في تصورهم لحقيقة الأحداث ، وإنما تعاملوا مع المعلومات الواردة بإنصاف وحذر! فليتنا نقتدي بهم .
ـ وأما قول الكاتب أنّ الأمير توقف في اسطنبول ثم استقر في الشام ، فيحتاج إلى توضيح .
لأنّ الاتفاقيّة التي تمت بين نابليون الثالث والسلطان العثماني تقضي بإقامة الأمير في مدينة (بروسة)! إذن الأمير سيسافر من فرنسا إلى الحاضرة العثمانية ليستقر في بروسة ، وكان السلطان قد خصص للأمير داراً كبيرة هناك (على جهة التمليك) مع مخصصات مالية ، إلاّ أنّ السلطان رأى أنّه من الأفضل أن ينتقل الأمير عبد القادر إلى الشام كي يساعده في تحسين الأوضاع هناك! ، فتشاور السلطان مع نابليون ، وتعلل بأن الأمير لم يطب له المقام في بروسة بسبب كثرة الزلازل ، فوافق نابليون على انتقال الأمير إلى دمشق.
وقد نظم الأمير قصيدة جميلة يبيّن فيها حزنه على مفارقة مدينة بروسة التي عاش فيها ثلاث سنوات وله فيها أطيب الذكريات فقال :
أبى القلبُ أن ينسى المعاهد من بُرْسا ***** وحبّي لها ؛ بين الجوانح ، قد أرسى
أكلّفه سـلوانها ، وهـو مـغرمٌ ***** فهيهات! أن يسلو وهيهات! أن ينسى
تباعدتُ عنها ؛ ويحَ قلبي! بعدها ***** وخلّفتها ، والقلبُ ،خلفي ، بها أمسى
بلادٌ لها فضلٌ علـى كل بلدة ***** سوى ، مَن يشدّ الزائرون ، لها الحِلسا
عليَّ محالٌ بلدةً غـيرها ، أرى ***** بها الدين ، والدنيا ، طهورًا ولا نجسا
وجامعها المشهور ؛ لـم يك مثله ***** به العلم مغروسٌ . به كم ترى درسا
سـقى الله غيثًا ، رحمةً وكرامةً ***** أراضٍ ، بها حلَّ الأحبّة ، من بُرْسا
[نزهة الخاطر في قريض الأمير عبد القادر ص33]
وقد منح السلطانُ الأميرَ ألف كيس ذهبي عوضاً عن داره التي تركها في بروسة .
أمّا الراتب السنوي الذي خصصه نابليون للأمير فهو تعويض عن الإساءة التي تعرّض لها الأمير بخيانة الحكومة الفرنسية لعهودها معه ، وتعويض عن أملاك أسرته التي صادرتها الحكومة الفرنسية في الجزائر، ومنعتهم من حق العودة إلى الجزائر ، والأمير كان مضطراً إلى الإنفاق على أسرته كلها وعلى الجالية التي كانت معه ، وكان هذا الراتب قد اتفق عليه السلطان العثماني مع نابليون ورضي نابليون بدفع هذه الأموال في مقابل أن يتكفّل السلطان ببقاء الأمير في المشرق وعدم عودته إلى الجزائر . والأموال التي تفرضها الدول الغربية تعويضاً عن إساءة صدرت منها تجاه أي شخص أمرٌ معروف .
ثمّ إنّ السلطان العثماني عندما عرض على الأمير عبد القادر أن يخصص له من بيت مال المسلمين مرتبًا شهريًا يفي بحاجته وحاجات من معه ، رأى الأمير باجتهاده أنه من الأفضل أن يقبل المرتب الذي خصصته الحكومة الفرنسية ليوفّر مالَ خزينة المسلمين . وهذا أحد الأسباب التي دفعت الأمير للقبول بالتعويض المالي من فرنسة .
يقول محمد باشا :"ولأول وصول الأمير إلى بروسة عرضَ عليه واليها بإذن السلطنة العظمى تعيين مرتب شهري يقوم بشؤونه ، فسُرَّ الأمير بذلك ودعا للدولة العليّة وشكرها على اهتمامها بأمره الشكرَ الجزيل ، ثم قال له إن الإمبراطور نابليون عيّن لي من النقود ما يكفي من النّفقة ، وأمّا مولانا السلطان المعظّم فقد تفضّل علينا بما هو أعظم من الدنيا بما فيها وهو تنازل عظمته وإنعامه عليَّ بالكفالة عند الدولة الفرنساوية وهذه الكفالة هي السبب الأقوى في حياتنا الجديدة ولولاها ما خرجنا من قبضة الأسر ، وهذا الإنعام لا يوازيه شيءٌ ولا يقابله شكرٌ" .انتهى [تحفة الزائر 2/54]
فلو كان الأمير يحب المال وجمع الثروة كما يتهمه البعض لما وقف هذا الموقف الذي لم نسمع بمثله إلاّ في النادر من الرجال على مرّ العصور.
على كل حال الحديث عن الحالة المادية للأمير سيأتي في حلقة قادمة إن شاء الله .