الحلقة الحادية عشرة
والآن مع شبهة جديدة عجيبة ؛
قال الأخ محمد مبارك صاحب (فك الشفرة) :"فقد عرف عن الامير عبد القادر افتتانه بالحضارة الفرنسية، و علاقته الوطيدة بالفرنسيين".انتهى
ولكي يُبرهن على هذا الادّعاء راح يستدل له بدليلٍ هو : أنّ الأمير كان يُعامل الأسرى الفرنسيين معاملة حسنة ؛ يداوي جرحاهم ويطعمهم ويسقيهم ولا يسمح بقتلهم ، وبعد ذلك يقوم بمبادلتهم مع الأسرى الجزائريين الذين بقبضة فرنسا!!!
أرأيتم إلى هذا الاستدلال العجيب!
يقول صاحب (فك الشفرة) :"و مما يحتفظ به التاريخ عن الأمير عبد القادر الجزائري أنه قد عمل أثناء معاركه ضد الغزو الاستعماري الفرنسي للجزائر، على سن وتطبيق مجموعة قوانين حول كيفية معاملة الأسرى الفرنسيين المعتقلين من جيش العدو، ومن ذلك: "اعتبار أن أي فرنسي يتم أسره في المعارك يجب ان يعتبر أسير حرب، وأن يعامل كذلك إلى أن تتاح فرصة تبادله مقابل أسير جزائري" ، مع أن الفرنسيين كانوا حينذاك يستخدمون سياستَي الأرض المحروقة والإبادة الجماعية ؟؟.
ـ كما حدد الأمير عبد القادر بأن "على أي عربي في حوزته أسير فرنسي، أن يعامل هذا الأخير معاملة حسنة. وفي حال شكوى الأسير من سوء المعاملة، فلن نكون العقوبة مجرد اسقاط المكافأة ، بل قد يرافق ذلك عقوبات أخرى".
ـ ولضمان عدم قتل الأسير الفرنسي فإن "أي عربي يقدم أسيرا فرنسيا يحصل على مكافأة قدرها 8 دورو (وهي العملة الجزائرية التي تساوي 5 سنتيم).!!!!!انتهى
ولم يكتف بذلك حتى قال :"إن أعدادا من الأسرى الفرنسيين القدامى الذين تلقوا علاجا من قبل الأمير، كانوا يأتون من مناطق نائية في اتجاه قصر "بو" وقصر "أمبواز" حيث كان الأمير معتقلا، لتحية من كان المنتصر بالأمس".انتهى
سبحان الله . لقد جعل الأخ محمد مبارك التزامَ الأمير عبد القادر بأوامر الشريعة الإسلامية في كيفيّة معاملة أسرى الحرب دليلاً على افتتانه بالحضارة الفرنسية!!! وكأنّ الفرنسيين هم الذين يحسنون معاملة الأسرى في حين أنّ الإسلام لا يحض على حُسْن معاملتهم وإنما يأمر بتعذيبهم وتقتيلهم!!
وهذا الادّعاء ليس فيه تشويه لصورة الأمير ، وإنما فيه انتقاص للشريعة الإسلامية ـ عن غير قصد ـ التي يُوحي الكلام أنها لا تأمر بالإحسان إلى الأسرى!
فهل نسيَ كيف أمرنا الله تعالى بمعاملة الأسرى؟ وهل نسيَ كيف كان رسول الله يُعامل أسراه؟
قال الله تعالى :{وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا}[الإنسان:8]
ولمّا أُتي الحجّاج بن يوسف بأسير ، قال لعبد الله بن عمر : قم فاقتله ، فقال ابن عمر : ما بهذا أُمرنا ، يقول الله : {حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منًا بعد وإما فداءً}(محمد: 4)؛ [مصنف ابن أبي شيبة 6/498]
والبحث طويل وأساسيّاتُه يعرفها عامة المسلمين .
ثمّ جعل صاحب (فك الشفرة) شعور الأسرى الفرنسيين بفضل الأمير عليهم عندما أحسن معاملتهم وهم أسرى لديه؛ وهم الذين تعوّدوا الإساءة للأسرى الذين في أيديهم ومعاملتهم بوحشية؛ دليلاً على علاقة الأمير الوطيدة بالفرنسيين!!
والله إن هذا لشيءٌ عُجاب!!!
عن أي علاقات يتكلّم الكاتب والأمير في حالة حرب شرسة مع فرنسا يُقتّل جنودها وضباطها ويشردهم ويردهم خزايا وخاسرين ويضطرهم لأكل لحم القطط والكلاب!! ، ويأسر منهم الكثير ليبادلهم بالأسرى الجزائريين؟!
عجيب والله! إذا كانت العلاقات وطيدة برأي الكاتب ووقع كل هذا القتل والأسر والتشريد! فكيف إذا كانت العلاقات عدوانية؟!
لقد كان الجنود الفرنسيون معجبون بشخصيّة الأمير الفذّة ، فهو عسكريٌ محنّك استطاع أن يهزم الجيوش الفرنسية المدججة بأحدث وأثقل الأسلحة ، وهو لا يملك إلاّ سيفه ومسدسه!
وهو السيد الشريف المتخلّق بالآداب الإسلاميّة السامية التي لم يكن الأوربيون المتوحشون يجدون في معاجمهم مفردات لتلك الأخلاق والسجايا!
وتذكر المصادر التاريخية أن عددًا ليس بالقليل من الجنود والضباط الفرنسيين أعلنوا إسلامهم وانضموا إلى جيش الأمير وكانوا يُشرفون على تدريب جيشه وتصنيع المدافع وبعض الأسلحة .
يقول الكولونيل شارل هنري تشرشل: ((لقد كان مدربو جيش الأمير النظامي من المشاة ، من الفارّين من الجيش الفرنسي . وقد ازداد هؤلاء الفارّون إلى أن أصبحوا أخيراً يكوّنون كتيبة خاصة بهم ، وقد حاربوا ضد مواطنيهم (الفرنسيين المسيحيين) بكل شجاعة وإقدام لا يكاد الجندي المسلم يزاحمهم فيها)).انتهى [انظر (حياة الأمير عبد القادر) لتشرشل ص141]
ويقول تشرشل في صدد حديثه عن انبهار الجيش الفرنسي بأخلاق وأعمال الأمير عبد القادر : ((وقد قال أحد الضباط الفرنسيين الكبار بعد ذلك :"لقد كان علينا أن نخفي هذه الأشياء بقدر ما نستطيع على جنودنا ، لأنهم لو اطلعوا عليها لما كان في استطاعتنا أبدًا أن نجعلهم يحاربون عبد القادر بنفس الاندفاع والحماسة)).انتهى [المصدر السابق ص204]
((وكان الأسرى الفرنسيون يتبرعون ، عند إطلاق سراحهم ، بالسلاح لأحد خلفاء الأمير وهو ابن علال بن مبارك تكريمًا له)).انتهى [المصدر السابق ص204]
ويذكر هنري تشرشل أن: ((الأمير عبد القادر أثار في صدور الجنرالات الفرنسيين مشاعرَ الإعجاب البطولي ، وكانوا ينشدون اللقاء به دون جدوى ، بينما كلّف مواهبهم العسكرية غالياً)).انتهى [انظر حياة الأمير لتشرشل ص120]
ولا غرابة في موقف الجنود الفرنسيين من الأمير عبد القادر؛ وإليكم مثالاً قريباً : ففي الحرب العالمية الثانية ، وبعدما عُيّن الماريشال "رومل" قائدًا للجيوش الألمانية في شمال إفريقية ، راح يُنكّل بالقوات البريطانية والفرنسية ويذيقها الهزائم المتتالية ، وكانت مناوراته العسكرية البارعة تُعدّ من المعجزات بنظر قوات التحالف ، إلى أن وصل بقواته إلى مدينة "العَلَمين" قرب الإسكندرية .
عندئذ أيقن الإنكليز وحلفاؤهم الفرنسيون أنّ الخطر داهم ، فعزلوا قائد قوات الحلفاء في شمال إفريقية الجنرال "ألكسندر"، وعيّنوا بدلاُ منه عبقريّة عسكرية مماثلة لرومل هو الجنرال "المنتوغمري"... فتسلّم القيادة فورًا ، وفوجئ ، كما قال في مذكراته ، أنّ القائد لجيوش الحلفاء في الواقع رومل وليس ألكسندر!! فأحاديث الجنود البريطانيين والفرنسيين كانت تدور عن معجزات رومل العسكرية ومناوراته الناجحة والرائعة .
ولَمَسَ الإعجاب الشديد لدى جيوشه برومل إلى درجة أنّ البعض لم يتورّعوا عن إلصاق صورته في مهاجعهم!!
مما دعا المنتوغمري إلى عقد ندوات وإلقاء دروس في الوعي القومي وأخطار الإعجاب بالعدو .[انظر (أصحاب الميمنة) ص152]
وأمّا الأمير عبد القادر فإن الأمر لم يكن مقتصرًا على شجاعته ومهارته العسكرية وعبقريّته القتالية! فإنّ التزام الأمير بالأخلاق الإسلامية الحميدة ، وتطبيقه للأوامر الشرعيّة الخاصة بشؤون الحرب والقتال والأسرى ، حمَلَ أعداءه على محبّته والإعجاب به ، وعلى الإعجاب بدين الإسلام ، فتحوّل الكثير من الضباط والجنود الفرنسيين إلى الإسلام ، وانحازوا إلى معسكر الأمير والجزائريين ، وساعدوا في تدريب جيش المجاهدين ، وفي بناء معامل الأسلحة ، وفي التخطيط الحديث للمعارك مع الجيش الفرنسي المعتدي ، وبذلك كان النصر للمجاهدين وللدعوة الإسلامية في ذلك العصر ، بعدما كانت الدعاية الأوربيّة تشوّه صورة الإسلام والمسلمين وتظهرهم بمظهر المتوحشين .
فكيف أصبحت هذه المنقبة والمكرمة للأمير بنظر الأخ محمد المبارك مذمّة ومثلبة؟؟!!