الحلقة السابعة
إنّ الذي يطلع على تاريخ الجزائر في الحقبة التي سبقت الاحتلال الفرنسي وما بعدها ، يُدرك أنّ ما قيل ويُقال في الأمير إنما هو للتعتيم عن حقيقة الوضع الذي كان سائدًا حينها ، إنّ الدول الصليبيّة ما كانت لتفضح عملاءها المخلصين ، وما كانت لتسلّط الأضواء عليهم ، لأنّ في ذلك تنبيهًا للمسلمين على طبيعة العملاء وماهيتهم ، فإذا تنبّه المسلمون لذلك فإنهم سيسعون للقضاء على أمثال أولئك العملاء ، وسيتجنّبون العمل معهم ، وسيكتمون أسرارهم عنهم ، وفي هذا إضعاف للصليبيين وتَخْييبٌ لمخططاتهم.
ولذلك نجد أنّ الفرنسيين قبل إقدامهم على غزو الجزائر قاموا بدراسة الوضع هناك وأنشؤوا علاقات بالجهات التي تعهَّدت لهم بتقديم العون الكامل ، وقبل نزول أول جندي فرنسي على الشواطئ الجزائريّة نزل المؤرّخون الفرنسيون الذين بدؤوا من فورهم كتابة أحداث التاريخ كما تشتهي أنفسهم ، فصوّروا هزائم جيوشهم النكراء على أيدي المجاهدين الجزائريين على أنها انتصارات وملاحم بطوليّة ، وأخذ رسّاموهم يرسمون لوحات النصر الكاذب ويرسلونها لتُزَيّن بها جدران القصور في باريس ، وألّفوا عشرات الكتب يشوّهون فيها تاريخ الجزائر ؛ يرفعون الوضيع ويضعون الرفيع ، ويقلبون الحقائق فيجعلون من الجزائر بلدًا جاهلاً متخلفًا بحاجة للحضارة الفرنسية، إذن فهم أتوا ليحضّروا الشعب الجزائري (كما تزعم أمريكا اليوم عن سبب غزوها وتدميرها للعراق!)
وللفائدة فإن تقارير الباحثين الفرنسيين أمثال (فانتور ديباردي ، وروزيه) تثبت أن عدد المتعلمين في الجزائر غداة الاحتلال كان يفوق عدد المتعلمين في فرنسا![تاريخ الجزائر الثقافي 1/320]
وجعلوا تدميرهم لأكثر من 700 مسجد إضافة إلى أعداد كبيرة من المعاهد والزوايا ، من الارتقاء بحضارة الجزائر!! وهلمّ جرّا ...
ومن ذلك أنّهم صاروا يشوّهون تاريخ أبطال المقاومة في الجزائر الذين لم يخضعوا للإغراءات الفرنسيّة ، والذين كشفوا وفضحوا المخطط الفرنسي الاستعماري وتصدّوا لأذناب هذا المستعمر الغازي ، وأثبتوا للعالم أن الشعب الجزائري شعبٌ أَبِيّ عزيزُ النفس ، قويّ الإيمان بربّه عزَّ وجلّ ، لا يُعطي الدّنية في دينه ، وأنّه استطاع بعتاده القليل والبسيط أن يحطّم جحافل الجيوش الفرنسيّة المدججة بالمدافع والأسلحة النارية الحديثة ، وألحق الهزيمة بالحملات المتتابعة ووسم جباه الجنرالات بوسم العار والخذلان .
لقد كتبَ المؤرخون الفرنسيون عن أحد رموز الثورة في الجزائر بعد الأمير عبد القادر وهو الملقّب بـ (بو معزة) الذي دوّخ الجيوش الفرنسية سنوات متتالية ، ثمّ سجنه الفرنسيون في الجزائر ، وحاول الهروب عدة مرات إلى أن أطلق سراحه نابليون الثالث سنة 1849م ، فتوجّه إلى المشرق وانخرط في الجيش العثماني وقاتل معه في حرب "القرم" على روسيا حتى استشهد . هذا المجاهد الشهير قال عنه الفرنسيون : ((لقد كانت معه أميرة فرنسية تعلمه الرشاقة والضرب على البيانو!)) أرأيتم كيف يشوّهون صور رجالنا! [انظر الحركة الوطنية ص312]
وكذلك فعلوا مع المجاهدة (للاّ فاطمة) التي قادت الجهاد في (الزواوة) إلى أن أُسِرَت في إحدى المعارك وسُجِنت وماتت في السجن ، رحمها الله . حيث جعلوا تعاونها مع بعض زعماء الجهاد من باب العلاقات العاطفية والإعجاب بالجمال المتبادل ، في تعريض واضح بها وبالمجاهدين لا يخلو من الدس الأخلاقي والسياسي![المرجع السابق ص414]
وغيرهم كثير ...
وبالمقابل كان المؤرخون الفرنسيون يتسترون على رموز الخيانة والعمالة من الجزائريين سواء أهل السياسة أو أهل الجاه أو الشيوخ! ، فإنّك تكاد لا تجد كتابًا فرنسيًا مروَّجًا يتحدّث عن هؤلاء لا في القديم ولا في أيامنا هذه ، وإنما الحديث كلّه منصبّ على أبطال الثورة ابتداءً من الأمير عبد القادر وصولاً إلى الشيخ عبد الحميد بن باديس رحمه الله! أليس الأمر لافتًا للنظر؟ أليس الأمر مريبًا؟ أليس الأمر واضحًا؟ وإلاّ فلماذا يصرّ الفرنسيون على إظهار الأمير عبد القادر وحده بمظهر الصديق لهم؟
وإذا كان فعل الأعداء ـ في تشويه صورة خصمهم الذي حطّم كبرياءهم في الجزائر وفي الشام ـ متوقّعًا ؛ فالعجيب هو تقبّل بعض المسلمين لهذا الهراء!
وحتى لا أطيل عليكم أنقلُ لكم مقطعًا من خطبة ألقاها الشيخ محمد التجاني الكبير صاحب السجادة الكبرى (التجانية) ـ وهو خليفة الشيخ أحمد التجاني الأكبر مؤسس هذه الطريقة ، وهذا "الخليفة" يسيطر على جميع أرواح "الأحباب" المريدين التجانيين في مشارق الأرض ومغاربها ـ بين يدي الحكومة الفرنسية في 23/المحرم/ 1350هـ [بعد وفاة الأمير بـخمسين سنة] لكي يَظْهَر لكم طبيعة الوضع الذي كان يكابده الأمير عبد القادر من خيانة رؤساء الطرق الصوفية المنحرفة في تلك البلاد .
وأنا أنقل من مصادر موثوقة ؛ لا من مصادر صليبية أو مشبوهة!
في كتاب (مشتهى الخارف الجاني في رد زلقات التجاني الجاني) لمفتي المالكية في المدينة المنوّرة العلاّمة محمد الخضر الشنقيطي ،رحمه الله ، وَرَدَتْ خطبة لشيخ التيجانية في الجزائر في حينها ،
جاء في خطبة التجاني : ((..إنه من الواجب علينا إعانة حبيبة قلوبنا (يعني فرنسة) مادياً وأدبياً وسياسياً ، ولهذا فإنني أقول لا على سبيل المنّ والافتخار ، ولكن على سبيل الاحتساب والتشرّف بالقيام بالواجب : إنّ أجدادي قد أحسنوا صنعًا في انضمامهم إلى فرنسا قبل أن تصل بلادنا ، وقبل أن تحتل جيوشها الكرام ديارنا.
ففي سنة 1838م كان جدّي سيدي محمد الصغير ـ رئيس التجانية يومئذ ـ أظهر شجاعة نادرة في مقاومة أكبر عدو لفرنسا ، الأمير عبد القادر الجزائري، ومع أنّ هذا العدو ـ يعني : الأمير عبد القادر ـ قد حاصر بلدتنا عين ماضي ، وشدد عليها الخناق ثمانية أشهر ، فإنّ هذا الحصار تمَّ بتسليمٍ فيه شرفٌ لنا نحن المغلوبين ، وليس فيه شرف لأعداء فرنسا الغالبين ، وذلك أنّ جدّي أَبَى وامتنع أن يرى وجهًا لأكبر عدو لفرنسا ، فلم يُقابل الأمير عبد القادر!!
وفي سنة 1864م كان عمي سيدي أحمد ـ صاحب السجادة التجانية يومئذ ـ مهَّد السبيل لجنود الدوق دومال ، وسهّل عليهم السير إلى مدينة (بسكرة) ، وعاونهم على احتلالها.
وفي سنة 1870م حملَ سيدي أحمد هذا تشكرات الجزائريين للبقية الباقية من جنود (التيرايور) الذين سَلِموا من واقعة (ريش ـ هوفن) ، وواقعة (ويسانبور) ، ولكي يُظهر لفرنسا ولاءه الراسخ وإخلاصه المتين ، وليُزيل الريب وسوء الظن اللذين ربما كانا بقيا في قلب حكومتنا الفرنسية العزيزة عليه ـ يعني : من حيث كونه مسلمًا ولو بالاسم فقط ـ برهن على ارتباطه بفرنسا ارتباطاً قلبياً ، فتزوّج في أمد قريب بالفرنسية الآنسة "أوريلي بيكار" (مدام أو أيّم التجاني بعدئذ) ، وبفضل هذه السيدة ـ نعترف به مقروناً بالشكر ـ تطورت منطقة (كوردان) هذه ضاحية من ضواحي (عين ماضي) من أرض صحراوية إلى قصر منيف رائع ، ونظراً لمجهودات مدام أوريلي التجاني هذه المادية والسياسية فإنّ فرنسا الكريمة قد أنعمت عليها بوسام الاحترام من رتبة "جوقة الشرف")).
[[وأحمد التجاني هذا لمّا تزوج في سنة 1870م بهذه المرأة الفرنسية ، كان أول مسلم جزائري تزوج بأجنبيّة (غير مسلمة) ، وقد أصدرت هي كتابًا فرنسيًا أسمته: (أميرة الرمال) تعني نفسها ، وقد ملأته بالمثالب والمطاعن على الزاوية التجانية ، وذكرت فيه أنّ أحمد التجاني إنما تزوجها على يد الكردِنال "لافيجري" على حسب الطقوس الدينية المسيحيّة ، وذلك لأن قانون الزواج الفرنسي كان دينياً مسيحياً لا مدنياً!، ولما توفي عنها أحمد هذا خلفه عليها وعلى السجادة التجانية أخوه علي!!..
ولمّا أنعمت فرنسا بوسام الشرف على هذه السيدة ، قالت الحكومة في تقريرها الرسمي ما نصّه : لأن هذه السيدة قد أدارت الزاوية التجانية الكبرى إدارة حسنة كما تحب فرنسا وترضى!، ولأنها كسبت للفرنسيين مزارع خصبة ومراعي كثيرة، لولاها ما خرجت من أيدي العرب الجزائريين (التجانيين) ، ولأنها ساقت إلينا جنودًا مجنّدة من (أحباب) هذه الطريقة ومريديها ، يجاهدون في سبيل فرنسا صفًا كأنهم بنيان مرصوص!! ..انتهى
ومع أنّ الأحباب التجانيين يتبركون بهذه السيدة ويتمسكون بآثارها ويتيممون لصلواتهم على التراب الذي تمشي عليه ، ويسمونها (زوجة السيدين)، فإنها لا تزال مسيحيّة كاثوليكية ، ومن العجيب أن أكثر من إحدى وستين سنة قضتها كلها في الإسلام وبين المسلمين! من (1870 إلى 1931) لم تغيّر من مسيحيّتها شيئًا، وهذا دليل على ما كانت تكنّه في قلبها لهؤلاء (الأحباب) الذين حكّموها في رقابهم وأموالهم !!]] انتهى[هذا التوضيح من مراسل مجلة الفتح التي نقلت خطبة التجاني ، ومجلة الفتح في ذلك الوقت هي المجلة التي يثق بها المسلمون جميعًا].
ولنرجع إلى الاعترافات ؛ ثم قال محمد التجاني الكبير : وفي سنة 1881م كان أحدُ (مقاديمنا) سي عبد القادر بن حميدة مات شهيدًا!! مع الكولونيل فلاتير حيث كان يعاونه على احتلال بعض النواحي الصحراوية .
وفي سنة 1894م طلبَ منّا جول كوميون والي الجزائر العام يومئذ أن نكتبَ رسائل توصية ، فكتبنا عدّة رسائل ، وأصدرنا عدّة أوامر إلى أحباب طريقتنا في بلاد الهكار (الطوارق) والسودان نخبرهم بأن حملة "فو ولامي" الفرنسية هاجمة على بلادهم ، ونأمرهم بأن لا يقابلوها إلاّ بالسمع والطاعة!، وأن يعاونوها على احتلال تلك البلاد ، وعلى نشر العافية فيها!! ..
وفي سنة 1906ـ1907م أرسل المسيو "جونار" والي الجزائر العام يومئذ ضابطَهُ المترجم مدير الأمور الأهلية بالولاية العامة سيدي "مرانت"! برسالة إلى أبي المأسوف عليه سيدي البشير ، فأقام عنده في زاوية كوردان شهرًا كاملاً لأداء مهمّة سياسية ، ولتحرير رسائل وأوامر أمضاها سيدي البشير والدي ـ رئيس التيجانية يومئذ ـ ثمّ وجّهت إلى كبراء مرّاكش وأعيانها وزعماء تلك البلاد وجلّهم ـ أو قال : وأكثرهم ـ تجانيون من أحباب طريقتنا نبشّرهم بالاستعمار الفرنسي ، ونأمرهم بأن يتقبلوه بالسمع والطاعة والاستسلام والخضوع التام ، وأن يحملوا الأمّة على ذلك ، وأن يسهّلوا على جيوش فرنسا تلك البلاد!!.
وفي الحرب العالمية الكبرى أرسلنا ووزعنا في سائر أقطار شمال إفريقية منشورات تلغرافية وبريدية استنكارًا لتدخّل الأتراك في الحرب ضد فرنسا الكريمةوضد حلفائها الكرام ، وأمرنا أحباب طريقتنا بأن يبقوا على عهد فرنسا وعلى ذمتها ومودتها.[شارك مع فرنسا في الحرب العامة أكثر من (200.000) مقاتل جزائري قُتل منهم (62.000) فداء لفرنسا! انظر (حاضر العالم الإسلامي) للأمير شكيب أرسلان 2/176].
وفي سنة 1913م إجابةً لطلب الوالي العام للجزائر أرسلنا بريدًا إلى المقدّم الكبير للطريقة التجانية في السنغال سيدي الحاج "عثمان ساي" نأمره بأن يستعمل نفوذنا الديني الأكبر هنالك في السودان لتسهيل مأمورية "كلوزيل" الوالي العام للجزء الشمالي من إفريقية الغربية ـ أي : لكي يسهّل عليه احتلال واحة شنقيط ـ
وفي سنة 1916م إجابةً لطلب المريشال "ليوتي" عميد فرنسا في مراكش كان سيدي علي ـ صاحب السجادة الرئيس الذي كان قبلي ـ كتبَ مئة وثلاث عشرة رسالة توصية ، وأرسلها إلى الزعماء الكبار وأعيان المغاربة يأمرهم بإعانة فرنسا في تحصيل مرغوبها وتوسيع نفوذها وذلك بواسطة نفوذهم الديني!..
وفي سنة 1925م في أثناء حرب الريف أرسلتُ أنا ـ حبيبنا ـ المخلص ومريد طريقتنا ومستشارنا المعتبر حُسني سي أحمد بن الطالب إلى المغرب الأقصى ، فقام بدعاية كبرى ـ وبروباغندا([1])ـ واسعة في حدود منطقة الثوار ، وتمكن من أخذ عناوين الرؤساء الكبار والأعيان الريفيين و"المقاديم" وأرباب النفوذ على القبائل الثائرة ، وكتبنا إليهم رسائل نأمرهم فيها بالخضوع والاستسلام لفرنسا، وقد أرسلنا هذه الرسائل إلى "مقدّمنا" الأكبر في فاس ، فبلّغها إلى المبعوث إليهم يداً بيد.
وبالجملة فإنّ فرنسا ما طلبت من الطائفة التجانية نفوذها الديني إلاّ وأسرعنا بكل فرح ونشاط بتلبية طلبها وتحقيق رغائبها ، وذلك كله لأجل عظمة ورفاهية وفخر حبيبتنا فرنسا "النبيلة"!!.. والله المسؤول أن يخلّد وجودها بيننا لنتمتّع برضاها الخالد!!.وختم خطبته هذه بالثناء العاطر على الموظفين الفرنسيين وعلى الضباط العسكريين واحدًا واحدًا ، ومدح الوالي العام ووصفه بأنه (المستعمر الأكبر) .
وما انتهى الشيخ من خطبته حتى نهض ليوتنان كولونيل "سيكوني" رئيس البعثة العسكرية وشكر الشيخ وأثنى عليه ، ثم قال له : "من كمال مروءتك وإحسانك يا سيدي الشيخ (المرابط) أنك لم تذكر ولا نعمة واحدة من النعم التي غمرتني بها ، فأنت الذي أنجيتني من الطوارق الملثّمين ، وأنقذتني من أيديهم .. وهكذا جعل الكولونيل يذكر مناقب أخرى للشيخ كثيرة . انتهى[من كتاب العلامة محمد الخضر الشنقيطي مفتي المالكية بالمدينة المنوّرة (المتوفى سنة 1355هـ = 1936م) ، في ردّه على شيخ التيجانية وطريقته ص616ـ 621 . وهذه النقول جمعها تلميذه فضيلة الشيخ إبراهيم القطّان. واسم كتاب العلامة الشنقيطي (مُشتهى الخارف الجاني في ردّ زلقات التجاني الجاني)].
ويقول المؤرّخ الإسلامي الكبير الأستاذ أبو القاسم سعد الله : ((إنّ الأمير (عبد القادر) قد اطلع على رسائل بخط التيجاني إلى أهل الأغواط يذكر فيها أنه خليفة الله في أرضه!! ؛ وأُخرى إلى حاكم الجزائر (الفرنسي) يقترح عليه أن يُشغل الأمير من جهة البحر وهو يكفيه من جهة البر!!)).انتهى[الحركة الوطنية الجزائرية 1/217]
ويقول سعد الله: ((إن هذا التجاني قد كتب (يوليو 1839) قبل استئناف الحرب مع الأمير ، إلى المارشال "فاليه" يقترح عليه البرنامج التالي للتعاون ضد الأمير! : كون أعيان العرب طلبوا منه هو (التجاني) أن يكون أميرًا عليهم ، فأجابهم بأن الإمارة تقتضي وسائل الحرب وهم لا يجدونها في الصحراء. تعيين فرنسا لباي على (المْدِيّة) {لاحظ أنها ما تزال عندئذ تحت الأمير}على أن يكون هو التجاني كبير أهل البادية ، ويكون الباي المذكور هو الواسطة بينه وبين "فاليه" ، ويتعهد بطاعته والدخول تحت نظرخ ويدفع إليه الزكاة والعشور ، وبذلك "نبعد من كان غريبًا عنك أو عدوًا لك" وإن العرب غاضبين من الأمير لأنه "قدّم الصغير وأبعد الكبير" ثم إنه "رجل يجهل قواعد العلاقات التي توجد بين الناس ـ القُوى ـ" وهو بدوي ، والبدو لا يعرفون شيئًا من ذلك)).انتهى بحروفه[المرجع السابق ص219]
([1])كلمة لاتينية بمعنى الدعاية
والتيجانية كانوا منذ البداية رافضين للوجود والحكم العثماني وثاروا عليه ووقعت بينهم حروب ، ولذلك أسرعوا وتحالفوا مع الفرنسيين الذين أقنعوهم بأنهم يريدون مساعدتهم للتخلص من العثمانيين، وتنصيبهم حكّامًا على الجزائر بدلاً عنهم!!
وكان الأمير عبد القادر حاصَرَ قلعة التيجانية وهزمهم ، وجاء في رسالته إلى وكيله في وهران الحاج الطيب : ((إنّ الله تعالى قد حمّلنا مسؤولية النظر في صلاح المسلمين وتوجيه جميع أهل هذه البلاد إلى شريعة سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم . لقد توجهنا إلى الصحراء لا للإضرار بالمسلمين الحقيقيين ولا لإخضاعهم وتخريبهم ولكن لإيقاظ إيمانهم وجمع شملهم وإقامة النظام بينهم . وكلّهم استجابوا لدعوتنا وأطاعوا بقدر ما تسمح به ظروفهم ، ولم يتخلّف إلاّ التجاني. وقد وجدنا أنفسنا وجهًا لوجه أمام الذين كان قد غرر بهم وزيّن لهم العصيان ، فكانوا مستعدين لمحاربتنا ، وناشدناهم حبَّ الله ورسوله لكي ينضموا إلينا ، وذكرناهم لهذا الغرض بآيات من الذكر الحكيم ، ولكن كل ذلك بدون جدوى ، فيئسنا من رجوعهم إلى الحق ومع ذلك خفنا أن تكون الرأفة بهم سببًا في ضياع الهدف المنشود ، وهذا الهدف هو جمع العرب جميعًا على كلمة واحدة وتعليم الجاهل شريعة سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ومنع انتشار الشرور بينهم ، وحفظهم من انتشار الفساد إليهم من بعض المدن ..)) . انتهى [حياة الأمير لتشرشل ص132 ، وطبعًا الكلام مترجم عن الأصل]
ومن صور تفشي الجهل بأحكام الشريعة ما ذكره الأستاذ سعد الله عن "العيّاشي" :{في بلدة عين ماضي مركز الطريقة التيجانية يقول "العياشي" : (إن النساء فيها كنّ غير محجبات ويخالطن الحجيج يبعن ويشترين) [تاريخ الجزائر الثقافي 1/176]}
أعرِضُ هذه الأحداث والاعترافات لأُبيِّن للقراء والباحثين حقيقةً غابت عن أكثرهم ، وهي أنّ الحالة الاجتماعية الدينيّة التي كانت تعيشها الجزائر تحت الحكم العثماني كانت في غاية التدهور والانحطاط ؛ وقد عمّ وشاع التصوف المنحرف وكثُرَت رجالاته ،: ((ونشأت تحالفات بين أرباب الطرق الصوفية وبين الحكّام الظّلَمة ، فقد كان بعض رؤساء الزوايا والدراويش يرشون الولاة ليسكتوا عن ابتزازهم لأموال الناس والتعدي على الحرمات والأعراض . فقد رُويَ أنّ المرابط قاسم ابن أم هانئ كان له رعايا وأتباع كثيرون في قسنطينة ونواحيها وكان له فقراء يرقصون ويشطحون ولعابهم يسيل ، وربما يتضاربون ؛ وقد قيل عنه أنه أنكر التأثير لله وادّعى أنه هو الذي يملك التصرف!! وكان أصحابه يدفعون الرِّشا إلى الحكام . وكان الشيخ (طراد) في عنّابة صاحب طريقة ولمّا توفي تولاّها ابنه ودخل في خدمة الأمراء وصار يعطيهم الجبايا والخراج للاستعانة بهم على الفريق الذي يعارضه . وطغى هذا الصنف من شيوخ التصوف على حساب تصوف الزهد والعبادة والأخلاق! ولكن كثرة هذا الصنف المنحرف خلال العهد العثماني وسكوت أرباب السلطة عليه وتبادل الرِّشا والهدايا بين الطرفين تدل على المرض الذي أصاب المجتمع الجزائري آنذاك ، دينياً وسياسيًا وأخلاقيًا . فهذا الصنف من أدعياء التصوف كان يستعمل جميع الوسائل لاستغلال العامة ونشر الجهل والخرافة بينها)).انتهى[ملخصًا من كتاب تاريخ الجزائر الثقافي 1/476 للمؤرخ الكبير الدكتور أبي القاسم سعد الله]
((كما نادى أحمد بن ساسي البوني (1139هـ)، بإسقاط التدبير تمامًا عن الإنسان ، واعتبر أن هذا الإنسان مسير لا مخيّر حتى كان ما أصاب الله به البلاد من تأخر ومن ظلم وفساد ،كان لمصلحة لا يعلمها إلاّ هو ولا حاجة للإنسان أن يثور أو يرفض أو ينتقد الظلمة والمفسدين والمتسببين في التخلّف)).. ((وهذا الحسين الورثلاني (1193هـ) كان مذهبه في التصوف اتباع الطريقة الشاذليّة وسلوك علم الباطن ونقد الفقهاء الذين اعتبرهم أعداء للصالحين والأولياء..وكان يقول إن المرابطين يكتبون في اللوح المحفوظ! وأشاد بنبوءة سيدي خالد (خالد بن سنان العبسي ؛ قبل الإسلام) ، وكان الورثلاني كمعظم أتباع الطريقة الشاذلية ، يُبدي اهتمامًا بشؤون الدنيا وملذات الحياة)) . انتهى[المرجع نفسه 1/484ـ 495].
((وكان شُرب الخمر والسماع وتعاطي الربا وتناول الحشيش والخنا أمورًا شائعة عند بعض العلماء)) ، ((وكان الشيخ محمد الحاج قد ظهر عليه الجذب وكَثُرَ الخَنَا على لسانه والتفوه به أمام الذكور والإناث على السواء ، وكان يأكل الحشيشة ويعطيها لمن يزوره ، بل إنه يلزمه بأكلها. وعندما مات له قِطٌ (وكانت له قطط كثيرة) أَسِفَ عليه وصنع له كفناً وجعل له مشهداً ومدفناً . والغريب أن خاصة وعامة قسنطينة قد جاؤوا للجنازة ولتعزية الشيخ في فقيده!!!
وكان الشيخ محمد ساسي يقول في غنائه : كنتُ صاحب الخضر والآن أنا سيّده! وكان يذكر في قصائده أنه عرج إلى السماء وكشف له الحجاب)).انتهى [المرجع السابق 1/414 ـ 490 والدكتور سعد الله ينقل من عدّة مراجع ومخطوطات من أبرزها مخطوط لأحد العلماء المصلحين في الجزائر وهو الشيخ عبد الكريم الفكون (1073هـ) وكتابه اسمه (منشور الهداية في كشف حال من ادّعى العلم والولاية) وهو مطبوع بتحقيق الدكتور سعد الله]
ويقول الأستاذ سعد الله عن حالة كثير من علماء المسلمين في عصر الأمير: ((وأمّا علماء المسلمين ، فقد كان أغلبهم ، كما قال ابن العنّابي ، منشغلين بتكوير وتكبير العمائم ، وإطالة أكمام الجبائب ، وصبغ اللحى والشوارب ، والتكثير من حبّات السبح ، والتحذلق والحوقلة والسبحلة ، والتقرّب من ذوي السلطان ، والنقاش حول الحلال والحرام . أمّا أمر الجهاد عندهم ، بما في ذلك أعظم الجهاد الذي هو كلمة حقٍ عند سلطان جائر ، فقد أصبح من الذكريات الخوالي ، لا يُقرأ إلا كآيات في القرآن أو عبارات في الأحاديث النبوية ، أو في أبواب الجهاد في الكتب الفقهية . فلما جاءهم ليون روش (وهو جاسوس فرنسي ادّعى الإسلام) صُحْبَةَ الشيخ محمد التجاني بفتوى تقتضي وقف الجهاد ضد أعداء الدين ، آمنوا وصدقوا ووضعوا أختامهم . كانت الفتوى التي أحكم صياغتها روش بالتعاون مع علماء السوء في الجزائر ، تقول للمجاهدين الجزائريين : ضعوا أسلحتكم فأنتم في بلد إسلامي ، وإنه إذا تغلّب العدو الكافر على المسلمين فإنه لا يجوز لهؤلاء مجاهدته لأن ذلك ضرب من الانتحار ، ولا تجب عليهم أيضًا الهجرة لأن الجزائر ليست دار حرب بل هي ما تزال دار إسلام ما دام العدو الكافر قد تعهّد بترك المسلمين يقومون بأمر دينهم. وليس عليهم أن يتبعوا الأميرولا أن يشايعوا أي مجاهد أو مهدي منتظر ، يُعلن أنه رجل الساعة جاء لطرد الكافرين .(وقد حمل هذه الفتوى ليون روش ومحمد التجاني إلى علماء القيروان والأزهر والحرم المكي واستطاعوا أن يظفروا بتوقيع العلماء هناك أيضًا)!!!!!!
لقد خذل أولئك العلماء الأمير في جهاده وأثّروا في حركته ، ربما أكثر مما أثّرت فيه لا مبالاة سلاطين آل عثمان أو سيوف سلطان فاس . وقد قال أحد الباحثين الفرنسيين المتفقهين في شؤون الاستعمار :"وقد أدّت هذه الوثيقة (الفتوى) في وقتها أكبر خدمة لتأسيس احتلالنا للجزائر")).انتهى [انظر (الطرق الصوفية الإسلامية) لـ ديبون وكو بولاني .الحركة الوطنية الجزائرية ص275ـ276]
((وراسل الأميرُ علماءَ الجزائر ورجال الطرق الصوفية فيها يطلب منهم دعوة الناس للجهاد وإجابة دواعي الشرع واستخدام نفوذهم الروحي عند السكان من أجل مصلحة الوطن والدين . وقد عيّن منهم الكثير في وظائف دولته وجعلهم الأمناء على مصير دولته في أغلب الأحيان وقد صدق معه بعضهم إلى آخر رمق . ولكن بعضهم تآمروا عليه وحاربوه أو لم يفهموا مهمّته أو تغلّبت عليهم الأنانية وحب المصالح الدنيوية ، بل إن بعضهم قد خان الله ورسوله في ربطه علاقات ودّية مع العدو وشاركه كبح حركة الجهاد الشعبية))[ المصدر السابق ص276ـ277]
((وقد أعلن الحاج علي شيخ التجانية بـ (تماسين) سنة 1844م عند احتلال (بسكرة) بقيادة الدوق دومال ، أنّ ذلك من قضاء الله ، ونَصَحَ بعدم التعرض للفرنسيين))[المصدر السابق ص420]
((إنّ احتلال الفرنسيين لـ "بسكرة" و"الأغواط" و"عين ماضي" كان بمساعدة الطريقة التجانية)) [المصدر السابق ص288]
وبسبب هذه الأجواء الخرافية والمنحرفة والمنبطحة أمام شهوات المال والسلطة استطاع المتربِّصون بالجزائر أن يجدوا لأنفسهم المُعين الرخيص الذي سيمكنهم من احتلالها والبقاء فيها ، وكما مرّ معنا من قبل فإن شيخ الطريقة التيجانية كان يتعامل مع فرنسا ويوصي أتباعه بها خيرًا من قبل أن تطأ جيوشها الجزائر ، وآخر يمنع من التعرض للفرنسيين لأنهم أهل ذمّة بزعمه ، وآخر يقول للناس إنّ الأمير عبد القادر خارجي! خرج على ولاة الأمر الفرنسيس!! ، وقديمًا كان البوني يمنع من الثورة على الظلمة والمعتدين ، وهكذا ..
وصحيح أن الأمير عبد القادر صوفيّ المشرب ومن أسرة متصوّفة ، حال كل الناس في تلك الحقبة، إلاّ أنهم لم يكونوا من ذلك الصنف المنحرف الذين ضاعت عندهم المبادئ الإسلامية الأساسية ، بل إنهم كانوا منضبطين بالفقه والشريعة . ومعهدُهم ، معهد القيطنة أكبر شاهد على ذلك ، فقد كانوا يدرِّسون فيه علوم القرآن واللغة والفقه وكتب الحديث ، وهذه رسائلهم ومخطوطاتهم كلها تدل على محاربتهم للغناء الصوفي ولمجالس الإنشاد والحضرات (الرقص الصوفي) ، بل إنّ السيد محيي الدين الحسني والد الأمير عبد القادر لما جاء إليه محمد بن الشريف البربري الدرقاوي وتكلّم بكلام فيه شطحٌ صوفيّ ما كان منه إلاّ أن استتابه وأمر بتأديبه، كما ينص عليه الفقه المالكي [انظر (تحفة الزائر) لمحمد باشا 1/75] . ومن الأدلّة على انضباطهم وعدم انحرافهم كباقي المتصوفة ، أنّ جميع الكتب التي ألّفت في فضح الزائغين من المتصوفة وعددت أسماء شيوخهم لم تذكر ولم تتعرض لذكر أحد من أسرة الأمير وكلهم كانوا من أهل العلم وفيهم متصوفة ، ولكنّ أحدًا لم يصفهم بالمشعوذين أو المدجلين ، ولم يسجل عليهم التاريخ أيّ تحالف مع الطغاة والمجرمين ، وبالمقابل فإن المؤرخين عندما يذكرون الشيوخ الصادقين وأهل العلم العاملين ، نجدهم يعدّون الحاج مصطفى جدّ الأمير عبد القادر وابنه السيد محيي الدين من علماء الوقت وصلحائه وممن ساهم في نشر العلم الصحيح . [تاريخ الجزائر الثقافي لسعد الله 1/520]
ومن الأدلة أيضًا ، أن الناس فور وقوع الحادث الجلل واقتحام جيوش الفرنسيين لأرض الجزائر أسرعوا والتفوا حول السيد محيي الدين وأسرته وبايعوه لعلمهم بصدقه وتمسّكه بالشرع الحنيف واستقامته على أحكام الشريعة ، بخلاف الكثير من شيوخ الطرق الذين أسرعوا وانضموا إلى فرنسة وتحالفوا معها على السيد محيي الدين وولده الأمير عبد القادر!
وهذا الأمير عبد القادر يعاني من جيوش المتصوفة المنحرفين ومن جيوش الخونة الخارجين أكثر مما عاناه من جيوش فرنسا!! وبسبب أولئك الطرقيين المنحرفين استطاعت فرنسة أن تبقى في الجزائر أكثر من [130]سنة! ولمّا قامت الثورة الجزائريّة كانت الطرق الصوفية أحد أهم العوائق في وجهها (إلاّ القليل ممن رحم الله) وهذا شيخ الطريق العليوية يأمر أتباعه باغتيال الشيخ المجاهد عبد الحميد بن باديس أكثر من مرّة ولكن الله أنجاه والحمد لله!
((إن زعيم الطريقة "الطيبية" في المغرب كان من أوائل المُدجّنين في التسعينيات من القرن الماضي (1890) ، ولم يكتف الاستعمار باستخدامه في أغراضه التوسعيّة بل زوّجه من امرأة أوربية وجعل منه مُخدِّراً للعامّة))[الحركة الوطنية الجزائرية ص295]
وللأمانة أقول لقد تحدّث الأستاذ أبو القاسم سعد الله عن دور الطرق الصوفية في التاريخ الإسلامي وبيّن أنهم لعبوا أدوارًا إيجابيّة زمن الأزمات ، ومما قاله : ((وكان الحاج السعدي ومحيي الدين والبركاني وأحمد الطيب بن سالم مِنْ أوائل الذين رموا بعمامة التصوف ولبسوا خوذة الجهاد ، رغم أنهم من زوايا معروفة في نواحيهم)) إلى أن قال ((لم يفهم زعماء التجانية عندئذ دورَ الطرق الصوفية في التاريخ الإسلامي ، وهو دورٌ قلنا أنه إيجابي زمنَ الأزمات وروحي زمن الازدهار الإسلامي . وقد كانت الجزائر (والإسلام) في أعنف الأزمة خلال العقدين الأولين من الاحتلال ، فإذا بمعظم الطرق الصوفية تتحرك في الاتجاه التاريخي المذكور إلاّ التجانية والحنصالية والعيساوية ... فقد رأت غير ذلك)).انتهى[الحركة الوطنيةص301]
ولما تحدّث الدكتور سعد الله عن الأُسر الجزائريّة التي قاومت الغزو الفكري والديني ، رغم عملية الفرنسة التي عرفتها الجزائر خلال القرن الماضي قال: ((ومن تلك العائلات خرجت المعارضة الثقافية والسياسية للاستعمار الفرنسي في القرن العشرين، مثل عائلة ابن باديس ،والأمير عبد القادر ،وابن سماية، وابن جلول ،الخ . ونفس الشيء يقال عن عائلات الطرق الصوفية أيضًا)).انتهى[الحركة الوطنية ص254]
إذن فرنسا دمّرت معهد القيطنة وزاويتها ومسجدها لأنّها تابعة للأمير عبد القادر ، وأمّا زاوية التيجاني وأمثاله فبقيت!
وفرنسا تشوه صورة الأمير عبد القادر الذي حاربها وتصفه بالصديق والماسوني ، في حين تسكت عن العميل الحقيقي والصديق الحقيقي التيجاني!!
وخطبة التيجاني التي نقلتها لكم كانت بعد وفاة الأمير عبد القادر ، وقد وصفه فيها بأنّه العدو الأكبر لفرنسا ، وهذا يدلكم على حال الأمير الحقيقيّة التي مات عليها ، وأنه كان يُنظر إليه على أنه عدو لفرنسا لا صديق!!
فالذي يريد أن يخوض في الحديث عن الرجال وتصنيفهم ، فإنَّ العدل والإنصاف يحتّمان عليه توخّي الدقّة والانضباط في وضع الأحكام والأوصاف ، لا أن يُطلق الكلام هكذا على عواهنه . فلا يجوز أن يُجرَحَ رجلٌ ما في عقيدته وعرضه وانتمائه لدينه وأمّته ، لمجرّد أنه صوفي أو سالك لإحدى الطرق الصوفية! ولا يجوز إلصاق أي انحراف خطير به دون دليل واضح ، ولا يجوز اتّهامه بكل ما صدر من بعض المارقين أوالمتفلسفين من الصوفية! لأجل أنه صوفي .
وخصوصًا عندما نتحدث عن تلك العصور السالفة التي كان جلّ الناس ومعظمهم ، يغلب عليهم التصوف وأخذ الطريقة ، ونكاد لا نجد في تلك الأزمان أحدًا إلاّ وهو يفتخر بطريقته وأورادها وولاية شيوخها ، سواء كان من عامّة الناس أو من علمائهم أو حكّامهم ، وكذلك تجدهم يعظّمون كل من قيل فيه أنّه وليّ وذلك من باب الطاعة وتوقير أولياء الله ؛ هذا هو الطابع العام للمسلمين في القرون التي حكمت فيها الدولة العثمانية المرسّخة للتصوف (من القرن العاشر إلى بدايات القرن الرابع عشر الهجري)، والعلماء الذين تصدّوا لبيان انحرافات المتصوّفة وضلالاتهم في ذلك الوقت ، كانوا من الصوفيّة! ومن المنتمين لبعض الطرق كالشاذلية أو القادرية، فهذا الشيخ الفقيه عبد الرحمن الأخضري صاحب (السلّم المنورق) ينظم أرجوزة طويلة جدًّا (346بيتًا) يهاجم فيها جهال المتصوفة ويفضح ضلالاتهم وبدعهم ، مع أنه كان شاذليًا!
جاء فيها :
والرقصُ والصراخ والـتصفيـق *** عــمداً بذكـــر اللـــه لا يليـق
وإنـــما المطلوبُ في الأذكــــارِ *** الــــذكرُ بالــخُشوع والـوقارِ
فــقد رأينـا فرقــةً إنْ ذَكَـــروا *** تَبَدَّعـــوا وربّمــا قد كـفـروا
وفعلـوا في الذكر فـعلاً منكراً *** صعبًا فجاهدهم جهادًا أكبرا
خلّوا من اسم الــله حرف الهاء *** فألحدوا في أعظم الأســماء
لـــقد أتوا واللــــه شـيئـــاً إدّاً *** تخرمنـــــه الـشامخات هداً
والألف المحذوف قبل الهــــاء *** قد أسقطوه وهـو ذو إخفـاء
وزعمـــوا أن لـــهم أحــــوالا *** وأنــــهم قد بلــغوا الكمالا
والقوم لا يدرون ما الأحـــوال *** فكـــونها لمثلــــهم محــال
حاشا بساط الــقدس والكمال *** تـطــــؤه حوافر الــجهــال
والجاهلون كالحمير الموكفــه *** والعارفـــون سادة مشرفـــة
وقـال بعض السادة الــمتبعـــة *** في رجز يهجو به المبتدعــة
ويذكـــــرون اللــــه بالـتَّغْبِير *** ويشْطَحون الشَّـطح كالحمـير
وينبحـــــون النبح كالكــلاب *** طَريقُهم ليست على الصَّواب
وليس فيهــم من فتى مـــطيع *** فـلعنة اللــــه علـى الجميـع
قــد ادَّعــــــوا مراتباً جليلـة *** والشـرع قد تجنَّـبوا سبيلـــه
قد نبذوا شرعــة الرســـــولِ *** والقوم قد حادوا عـن السبيلِ
لم يدخلــــوا دائرة الــحقيقة *** كــــــلا ولا دائـرة ا لطريقـة
لم يقتدوا بسيـد الأنــــــــام *** فخرجوا عـن ملَّــة الإســلام
لم يدخلوا دائرة الشريعــــة *** وأولعـــــوا ببدعٍ شنيعـــة
لم يعملوا بمقتضى الكتـاب *** وسنَّةِ الهادي إلــى الصَّـواب
قــــد مَلَكَت قلوبَـهم أوهام *** فالـــــقوم إبليـس لـهم إمـام
[انظرها في مجموعة الرسائل المنيرية الجزء الرابع]
وكذلك الشيخ عبد الكريم الفكون ، وغيرهم كثير ، ومرَّ معنا آنفًا كيف كان السيد محيي الدين القادري والد الأمير ، يستتيب أدعياء الصوفية إذا صدر منهم ما يخالف الاعتقاد الصحيح .
وليس من العلم في شيء ، ولا من الإنصاف ، أن ننظر إلى أهل تلك الأزمان بمنظار اليوم ، فنقيّمهم ونصنّفهم بناءً على ما استقرَّ في عالم اليوم ، ففي هذا العصر منَّ الله على أمّة الإسلام برجالٍ جدَّدوا لها أمر دينها ، ونشروا العلم الصحيح ، وساعدهم في ذلك النهضة العامّة وانتشار التعليم ووسائله ، فكثرت الكتب المطبوعة من مختلف العلوم : التفاسير ، والفتاوى ، والأصول ، والفقه ، وكتب الحديث وشروحها ، في حين أنه لم يكن يتيسّر لكثير من أفراد الأمّة في العصور السالفة الحصول على نسخة من كتابها العزيز القرآن!!
فارتفع عن الأمّة الجهلُ ، وساد العلم ، وارتقى التفكير ، وصار الذين كانوا بالأمس يؤمنون ببعض الأساطير والخرافات ، ينبذونها ويأنفون من قبولها ؛ وصار الذين كانوا بالأمس يتكلّفون تأويل كلام الفلاسفة ويحملونه على محامل حسنة ويعدّون ذلك من أفضل القُرَب وأعلى أبواب العلم ، يرفضونه وينهون عن قراءته ونشره!
وبعد أن وصفَ الأخ محمد المبارك الأمير بأنه يقدّس ابن عربي ، أتى بهذه القصّة فقال : ((و قد تواتر عنه أنه كان يشتري كتب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه الإمام ابن قيم الجوزية بأغلى الأثمان ليحرقها ، و ذلك أنهم كانوا يفتون بكفر ابن عربي ، كما يؤججون روح الجهاد في الشارع المسلم .بل كان يشتري جميع ما صُنِّف في الرد على ابن عربي ثم يتلفه)).انتهى
يقول الكاتب إنه قد تواتر أن الأمير كان يشتري كتب شيخي الإسلام ابن تيمية وابن القيم بأغلى الأثمان ثم يحرقها!!
ولعلّه من المناسب أن أُذكّر أخي الكاتب بشروط تواتر الخبر
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في شرح النخبة متحدثًا عن الخبر: ((فإذا جمع هذه الشروط الأربعة وهي :
1ـ عددٌ كثير أحالت العادة تواطؤهم أو توافقهم على الكذب.
2ـ رووا ذلك عن مثلهم من الابتداء إلى الانتهاء .
3ـ وكان مستندَ انْتِهائِهم الحِسُّ .(أي الأمر المُشاهد أو المسموع)
4ـ وانضاف إلى ذلك أن يصحب خبرَهم إفادةُ العلم لسامعه. (أي العلم اليقيني لا العقلي)
فهذا هو المتواتر)).انتهى[نزهة النظر في توضيح نخبة الفكر ص39]
فأين هذا الخبر الذي ساقه الكاتب من هذه الشروط ، بل أين هو من شرط واحد منها ، بل أين هو هذا الخبر أصلاً؟؟
وأقول : لماذا المجازفة في الكلام والتهويل ، والقضية لا يوجد ما يساعد على ثبوتها.
ومع ذلك سأتجاوز مسألة الزعم بتواتر هذا الخبر ، وسأرضى بوجود خبر آحاد صحيح يثبتها.
وأنا أُطالب الأخ الكاتب أن يأتيني بهذا الخبر ، وهذا ليس طلبًا عاديًّا ، وإنما هو فيصلٌ في المسألة!!
وأذكّر بأن رواية الشيخ محمد نصيف التي يعتمد عليها البعض ـ على نكارتها وضعفها ـ ليس فيها ذكر ابن تيمية ولا ابن القيم لا من قريب ولا من بعيد!!
وأدهى من ذلك أن الكاتب علَّل ذلك بأنهما كانا يكفّران ابن عربي ويؤججان روح الجهاد في الشارع المسلم!!!
أولاً ؛أنا أطالب الكاتب بإيراد النقول التي صرّح فيها الإمامان ابن تيمية وابن القيم بتكفير شخص ابن عربي!!
وثانيًا ؛هل نسي الكاتب أنّ الأمير عبد القادر كان قد قاد الجهاد في سبيل الله مدّة 17 عامًا ، وتابع أبناؤه من بعده الجهاد في سبيل الله فهذا ابنه "عبد المالك" يستشهد في المعارك مع الإسبان لتحرير المغرب ، وهذا ابنه "علي" يجاهدُ مع إخوانه في ليبيا الجيوشَ الإيطالية ، وهذا ابنه "عمر" يشنقه جمال باشا السفاح لأنه كان يقف معارضًا لسياسة التتريك ومحو اللسان العربي وينتقد جمعية الاتحاد والترقي وجماعة حزب تركيا الفتاة ، وهذا حفيده "عبد القادر بن علي" يغتاله لورانس البريطاني برصاصات وهو على فرسه بعد المغرب في دمشق ، وما ذلك إلاّ لأنّه كان يقف بالمرصاد لتحركات الإنكليز الاستعماريّة .
فكيف ساغ للكاتب أن يجعل بث روح الجهاد في المسلمين من الأمور التي تُسخط الأمير عبد القادر؟!
ثم ختم كلامه بقوله : ((بل كان يشتري جميع ما صُنِّف في الرد على ابن عربي ثم يتلفه)).انتهى
وقد بينتُ في الحلقة الأولى من ردّي عدم صحّة هذا الكلام من أصله . فحبّذا الرجوع إليه .
لتحميل الحلقة السابعة بصيغة الوورد : الرد على الشبهات المثارة حول الأمير - ح 7
والحمد لله رب العالمين