بسم الله الرحمان الرحيم :
الكاتبة والناقدة المغربية د.أسماء غريب لـجريدة الشاهد
المثقّف العربي غير معترف به،والغرب هو من يصنع التطرّف
حاورها الأستاد والصحفي : وليد شموري
1) كيف ستكون البداية هل نتحدث عن أسماء غريب الكاتبة أم الناقدة والمترجمة أم الشاعرة ما سرّ هذا التنوّع؟
أعتقدأنّ سرّ تنوع اهتماماتي الفكرية والإبداعية مردّه أولا وقبل كلّ شيء إلى الإيمان بقيمة الزمن وأهميّة الوقت في حياة الإنسان، فهو رأس مال عظيم على الإنسان أن يفكر مليا في كيفية استثماره وفقا لما يرى فيه صلاح دينه ودنياه، ومنْ تمّ يكرسّ جسده وروحه للعمل على تحقيق ما يكون فيه رقي له في دار الفناء وثمرة خير وفلاح في دار البقاء. والأديب كغيره من الناس ينطبق عليه هذا القول، فعليه أن يسعى دائما إلى تطوير نفسه وقدراته، هذا التطوير والتحسين والتهذيب الذي لا يمكنه أن يتحقق إلا إذا خاض مختلف المجالات الثقافية القريبة من اهتماماته وميولاته من لغة ونقد وشعر ومسرح وترجمة، بل كل ما له علاقة بالإبداع والمعرفة أدبية كانت أو علمية دون أن يهمل أبدا الاطلاع على تجارب الضفة الأخرى لأدباء عالميين أثروا إرث الفكر الإنساني على مرّ الأزمنة والعصور. وإذ يقوم المبدع بهذا الأمر، فإنّه تتفجّر بداخله طاقات تُوجّهُه إلى مناجم نفسه العميقة وتطلعُهُ على مكامن حرف الحق فتجعل منه الرسام أو الناقد أو الشاعر أو المترجم أو كلّ هذا معا في بعض الحالات كما هو الشأن بالنسبة لي.
2) أنت تعيشين في إيطاليا هل تؤثر غربتك في أعمالك وفي قلمك؟
ليست ماديةُّ الأرض من تُحدّدُ غربة الإنسان وإن بَعُدَ عن مسقط رأسهِ، إنما الغربة هي غربة الروح وغربة القلب، ومن خلا قلبُه من الله فهو غريب وإن كان بين أحضان الأهل والخلان.
3) برأيك ماهي مقاييس الحكم على جودة أي عمل روائي أو قصصي؟ هل الأمر يعود إلى ضرورة المعرفة الأكاديمية والنقدية فحسب أم يتخطّاه إلى عناصر أخرى قد تتعلّق بالموهبة والتجربة الحياتية الواسعة؟
الأمرُ يقتضي هذا وذاك، فالإلمام الأكاديمي بمختلف المدارس النقدية ومناهجها ضروري جدا، بل هو الأساس، لكن لا يُمكن القول بعدم أهمية التجربة الحياتية الواسعة، لأنها تعني القدرة على التوغل داخل النص بفكر العارف لحيثيات خبايا التخليق الإبداعي لنص قصصي ما؛ كيف نشأ وكيف كُتب وماهي الهواجس التي كانت تدور بخلد كاتبه لحظة تأليفه وما إلى ذلك من أسرار الكتابة وغيرها. أمّا الموهبة فهي أمر لا بدّ منه في كل الحالات والأحوال، لأنها تفتح باب الخلق والإبداع والتخليق على مصراعيه حتى في المجالات التي تستدعي من الكاتب التسلح بأدوات علمية أكاديمية محضة أكثر من غيرها، ففرق بين أن يَقرأ المتلقي دراسة نقدية عن نص أدبي مثلا تفتح مغاليق الكون أمامه بشكل خلاق وممتع وغير ممل، أو أن يقرأ نقدا جافا لا شيء فيه سوى صوت قعقعقة معاول البحث والتنقيب بشكل يدعو إلى الملل والنفور لا من البحث النقدي فقط ولكن حتى من النص القصصي نفسه.
4) أصدرت دواووين شعرية على غرار"بدونك" "تانغو ولا غير"مقام الخمس عشرة سجدة" حدثينا قليلا عن تجربتك الشعرية وماذا يعني لك الشعر؟
الشعرُ بالنسبة لي هو زمنٌ يمشي ضدّ زمنٍ آخر، هو ألِفٌ ولام نافيتيْن وناهيتيْن، هو "لا" في أيّام "النَّعَمِ". والكلماتُ إذا تخلى عنها الشعر تصبحُ كعرائس هجرها الحبيب ليلة الزفاف، ليس من نقص في فنيّة الصورة أو انعدام موسيقية في الوزن والإيقاع ولكن من غياب لسرّ تلك النقطة التي لا يسافر نحوها سوى الشعراء، لأن الشعر هو حقيقة منْ حقائق الكونِ الكبرى التي تجهلهُا ولم تزل إلى اليوم العديد من الأقلام التي تدّعي الشعر والقصيدة. فعالمُ الشعر أوسع من الفضاء الذي تحتله الحروفُ فوق بياض الورق، وزمنه أطولُ من زمن الإنصات للقصائدِ وهي تُقرأ في ندوة ما أو احتفالية تقديمٍ لديوان مَا، وإذا لم يتواضعِ المفكرون و الكتّاب أمامَ هذه الحقيقة فإن القصيدة لن تُمْنَحَ لهم أبدا ولن تَفْتحَ لهم في يوم من الأيّامِ محرابَ نقطتها وسرّها الحق. فالشعرّ مُجاهدة من أجل بلوغ النور في صفائه وهو يقف عند بوابة الموت والحياة الكبرى، مجاهدة تُلزِمُ الشاعر باختبار العزلة والإقامة فيها، والتخلّقِ بآدابِها بغية تجديد الوعدِ واستئناف العهدِ مع الحرفِ العابد ونقطتهِ الساجدة، وهو هذا التجديد والالتزام الذي أعبّر عنه لليوم في كل دواويني التي صدرتْ بما فيها ((بدونك)) و((مقام الخمس عشرة سجدة)) و((تانغو ولا غير)).
ففي ((بدونك)) كما يبدو ظاهرا من العنوان كانَ الإعلان عن الحرف وشجرتِه والتصريح باستحالة العيش بعيدةً عن حانة "وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ"، وفي ((مقام الخمس عشرة سجدة)) كان الدُّخولُ إلى محراب الحرف ومقامهِ الصمديّ الأحديّ، أما في ((تانغو ولا غير)) فكانت الحكايةُ الكبرى، حكايةَ عشقِ الحرفِ للنقطة، وهيامِ هذه الأخيرة بحرفها الأكبر، خالقَ الكون بديعَ السماوات والأرض.
5) ما مدى تمثل الخطاب الشعري عند أسماء غريب للرؤية الصوفية؟وما الإضافة التي شكلتها بالنظر إلى راهنية الإبداع العربي والعالمي؟
ليسَ كلّ من كتبَ شعرا يتحدثُ فيه عن الله هو صوفيّ، وليسَ كل صوفيّ هو بالضرورة شاعرا، وليسَ كل من قرأ كُتبا عن التصوف وشعرائهِ يصلح أن يكون من أهل القُرب والخلة، وإذ أقول هذا فإني أضعُ الإصبع على دمّل باتَ يُعاني منهُ الإبداع الصوفي المعاصر، سواءً في الشعر أو الموسيقى، وقد أصبحتِ الساحة الفنية اليومَ تضجُّ بهذا وذاك ممن لبسَ خرقةً أو تنّورة أو حملَ نايا أو عودا، ونظمَ شِعْرا وأطلقَ شَعْرا ولِحيةً أو حملَ سبْحةً أو لبسَ عقيقا، وهذه لعمري طامّة ما بعدها طامة، فالتصوف قبل كل شيء سلوكٌ وتخلق بأخلاق الخالق سبحانه وتعالى عمّا يصفون، وليسَ الصوفي من يقول عن نفسه صوفيا أبدا، وليس الشاعرُ الحقُّ من يقول عمّا يكتبهُ شعرا صوفيا، بل رأسُ الحكمة أن يدع الآخرين من أهلِ العلم والمعرفة والدرسِ يقولون عنه وعن كتاباته ذلك، فإذا ثبتتْ عليه صفة التصوّف، فإنهُ يُكتَبُ بين الناس كذلكَ، ولا حرجَ عليه بعد هذا الأمر إنْ قال عن نفسه أو وصفَها بما رآه ويراهُ الآخرون فيه. أما عمّا أضفتُه في تجربتي الشعرية من جديد فإني أفضّلُ أن أدعَ لأهل الاختصاص الحديث والكتابة عن هذا الشأن وفقا لأدوات الدرس والنقد الأدبي والعلمي الرصين، وكل ما يمكنني أن أقول عنه هو إنني أسعَى جاهدة إلى تجديد التجربة الشعرية الصوفية المعاصرةِ وضخها بنبضٍ خلاق وطاقة جديدة تجمعُ الشرق بالغربِ وتمشي على حبل الكلمة من يمينهِ إلى شماله، ثم من يساره إلى يمينه في حركة تواصلية ووصلية بين أطراف الكون واتجاهاته وخرائطه وأفلاكه.
6) قمت بترجمة عديد الأعمال من الإيطالية إلى العربية والعكس، أي طريقة تتبعها أسماء غريب عند الترجمة هل هي ترجمة تفسيرية أم حرفية أم تجمع بينهما؟
كانت الترجمة الأدبية ولم تزل من أصعب ميادين الإبداع والفكر وأكثرها تطلبا للجهد والصبر والنفس الطويل، لأنها تقتضي قبل كل شيء التعرف إلى نص الانطلاق في لغته الأمّ، ثم بعد ذلك مدّ جسر من التواصل والتلاقح الفكري بين جوهر النص ومكنوناته الخفية، وليس كلّ منْ يعرفُ أو يتحدثُ لغة أجنبية ثانية يمكنه أن يكونَ مترجما، إذ معرفة لغة أخرى لم تكن قط ّ يوما معيارا من معايير تكوينِ المترجم الحق، لأنّ هذا الأخير عليه أن يكون موسوعي المعرفة، وعندَهُ قبل هذا وذاك القابلية لتجديد تقنياته وأساليبه في الترجمة وفق مستجدات وتطورات عوالم الترجمة والمترجمين من حوله، وأن يكونَ مُلمّا بما يجدُّ أيضا في الساحة الأدبية العالمية من إصدارات في شتى المجالات. وأنا ممّنْ لا يؤمن بالمقولةِ التي أشيعت لقرون من الزمن عن الترجمة بأنها ((خيانة)) للنص، لأن فيها نوعا من استبدادية من اخترع الحدود الجغرافية التي تقيّدُ الكلمة وتقصُّ أجنحتها كي تمنعها بشكل أو بآخرَ من الطيران نحو ضفاف أخرى، بدعوى عدم قدرة المترجم على المحافظة على المعنى الكامل للنص الأول، وهذا أيضا حُكم مُسبق فاسد، لأنّه إذا كانَ المُترجم متمكنا من أدواته ولغةِ الانطلاق والوصول فإن الأمر لن يتطلبُ منهُ سوى أن يكون أمينا ويكتب ما قاله مؤلف النص ولكن بلغة أخرى، أمّا عن تأويلهِ وتحليله بكافة مستوياته الإبستيمولوجية والتاريخية واللغوية والأدبية فإنه أمر يترك للمتلقي ولأهل الاختصاص فيه. وما الفسادُ الذي تعانيه العديدُ من المؤلفات التي تُرجمت إلى اليوم سوى من جهلِ المترجمين وعدم تمكنهم من أدواتهم، والإشكاليةُ تصبح أكثر خطورة حينما يتعلقُ الأمر بنصوص الوحي السماوي بما فيها التوراة و الإنجيل و القرآن وغيرها مما سبقتها من الكتب.
كيف يمكنك أن تصفي الحركة النقدية والثقافية على مستوى الوطن العربي، وهل يلقى المثقف العربي اهتماما كافيا؟
في الوطن العربي لا توجد ثقافة نقدية، وبعضهم ممن اهتم بها وأفنى زهرة شبابه لأجلها يعدّون على رؤوس الأصابع، وسببُ هذا الغياب انعدامُ عُنصر مساءلة الذات أمام ما أصبحنا نعيشهُ من دمار فردي وجماعي، وأمامَ القضبان التي تحاصر الفكر العربي بما فيها قضبانُ متعاليات الفكر التقديسي والفكر التكفيري، التي هي ليست دائما عربية أو إسلامية الأصل بل أيضا غربيتهُ، ذلك أن ما سُمّيَ إلى وقت قريب بنهضة عربية أوصحوة فكرية لم تكن تأسيسا حقيقيّا لتطور وتقدم فكري بقدْرِ ما كانت فَرْضاً لتَبَعيّة جديدةٍ ذات دلالاتٍ مختلفة، فهُجوم الغرب المستمرّ وانتقاداته الأبديّة لكل ما تنتجه الثقافة العربية، أدى بشكلٍ أو بآخر إلى احتماء المثقف العربيّ بكل ما له علاقة بالماضِي وزادَ من تعنته فظهرت بالتالي الحركاتُ العصابية في الفكر الديني، وأعتقدُ أنه قدْ آن الأوان لنسائِلَ اليومَ نهضتنَا وحداثتنا، ونعيدَ النّظرَ في هذا الشّرقِ الذي اخترعهُ لنا الغربُ، سارقا منا شرقنَا الأمَّ وغربَهُم مَعاً، ومخلّفاً لنا جسدا عربيا جريحاً تتصادمُ بداخله الأفكار والإشكالياتُ دون أن ينتبه هذا الجسد إلى أنه كلمَا توغّلَ فينا واقتحمَ الغربُ خصوصيتَنا وحميميتَنَا بآلته الاقتصادية، كلما برز التطرفُ الفكري والديني، وكلما أصبحنَا عاجزين عن الحركةِ والكلامِ فما بالكَ بالنقد، لذا، فلربما حانَ الوقت كي نفكّكَ هذا المنظورَ، ونُعيدَ قراءة حداثتنَا ونهضتنا العربية من بابِ أنّها كانتْ لحظة احتضار وموت، لا حياةٍ وانبعاثٍ.
أما عمّا إذا كان المثقف العربي ينالُ الاهتمام الكافي أم لا، فإني أقولها صراحة: المثقف العربي غير موجود، ولا أحدَ يعترفُ بهِ، وكل ما يحدثُ في الساحة ويظهر فيها أو فوقها من مظاهرَ تبدو حياةً أدبية أو فكرية، هي ترفٌ وفُسحٌ صالونية ليسَ إلا، تحكمُها المحسوبيّة والتجمُّعية الحَلَقِيةُ التي يؤسّسُهَا بعضُ الأدباء بينهم فيخلقون أحزاباً ورابطات تحكمُها المصالح المتبادلة ومنطقُ المقايضة، ومنْ لا ينتمي إلى هذه التجمعات لا ينالُه ممّا قد يُعْتَقَدُ أنّه خيرا أيّ شيء. وهذا أيضا وجهٌ قبيحٌ من أوجهِ هذا الدمار الذي يعيشه الفكر العربي.
7) كيف هي علاقتك بالجزائر والجزائريين؟
علاقتي بالجزائر وطيدة جدا، ضاربة في عمق طفولتي البعيدة، وبلدي المغرب هو من علّمني حبّ الجزائر وأهلها، فأصدقاء طفولتي كانوا جزائريين، وبعض من أساتذتي كانوا من هذه الأرض الطيبة التي احتضنت ولم تزل إلى اليوم إبداعات العديد من مفكري المغرب وعلمائهم بمن فيهم مفكرين من أسرتي سواء من جهة والدي أو والدتي، هذا ناهيك عمّا وصلني من إبداعاتِ مفكرين عظام من الجزائر قرأتُ لهم منذ نعومة أظافري إلى اليوم، كالأمير عبد القادر والشيخ عبد الحميد ابن باديس، ومالك بن نبي، ومحمد أركون ومولود المعمري، والطاهر وطّار وكاتب ياسين ورشيد بوجدرة وغيرهم كثيرون.
كلمة أخيرة
خالص الشكر والتقدير على كرم الضيافة والاستقبال عبر هذا الحوار الشيق الذي مدّ ولا ريب جسورا جديدة من المحبة بيني وبين قرائي الأعزاء الكرام.
[url=
]
[/url]