بقلم/ الأستا\ عبد الكريم بحوصي
لا يمكن لنا بأي حال من الأحوال أن نتغاضى عن الدور الذي لعبه اليهود في تفعيل الحركة الاستدمارية بداية العصور الحديثة، ففي حين كان العرب على مستوى رفيع من علوم الملاحة و الجغرافيا، كان البرتغاليون و الأسبان يتطلعون بل يحلمون إلى مجارات العرب في ذلك، و لم يتسن لهم ذلك إلا بمساعدة اليهود في مجال الترجمة العربية و التجسس، فقد كان اليهود قد دعموا البرتغاليين بعلوم العرب و جداولهم الفلكية التي كانوا قد ترجموها إلى العبرية، و كان لهذا أثر كبير في تقدم البرتغاليين في مجال الرحلات البحرية.
لقد قام اليهود برحلات بين الشرق و الغرب براً و بحراً قصد جمع المعلومات عن أهم الطرق و عن الرحلات البحرية التجارية إلى الهند و الصين و عن إمكانيات المسلمين البحرية و العسكرية، إذ تظاهروا بالإسلام، و من بين أشهر البعثات التجسسية اليهودية بعثة عام 1487م،و التي كانت تحوي جماعة من الجواسيس اليهود في زي المسلمين سافروا إلى مصر كان على رأسهم ألفونسو دي بايفا (Alfonso De Paiva )، و بيرو دي كوفيلهام (Bero De Covilham)، فقد انخرطوا ضمن قافلة الحج المتجهة من المغرب إلى الحجاز عبر مصر ثم أقلعوا من السويس إلى جدة متظاهرين بالإسلام، و في جدة ركبوا سفينةً متجهة إلى الهند، و في هذه الرحلة تمكنوا من جمع معلومات كثيرة حول التجارة الإسلامية و مراكزها، ثم عادوا إلى مصر و سافروا بعدها إلى البرتغال هناك ليقدموا تقريراً مفصلاً عن التيارات البحرية و طريقة المسلمين في تجاوز منطقة الهدوء الاستوائي ، و عن ّأحوال جيش المماليك، و عن أوضاع بلاد الإسلام الداخلية، و كلها كانت تعاوناً لليهود و النصارى ضد الإسلام شكل خلفية من الخلفيات المهمة للتوسع الأوربي في بداية العصور الحديثة.
لقد عَمِلَتْ الخلفيات التي حددناها آنفاً على توجيه الغزو الأوروبي لخدمة غايات محددة و مدروسة، و ذلك بما لا يدع مجالاً للشك بأنها لم تأتِ بدافع الفضول و تأجج روح المغامرة و حب الاطلاع التي تروج لها معظم الكتابات الغربية، فلبُّ التوسع الأوروبي في بداية القرن الخامس عشر هو ما أشار إليه المؤرخ المسلم زين الدين الملباوي (الذي عاش في القرن 10هـ، 16م و أرخ للنفوذ البرتغالي في البحار الشرقية)، في قوله:" إن بغيتهم العظمى و مهمتهم الكبرى قديماً و حديثاً تغيير دين المسلمين و إدخالهم في النصرانية"، و هذا ما أكده إمانويل ملك البرتغال في إحدى خطبه، حين قال:" إن الغرض من اكتشاف الطريق البحري إلى الهند هو نشر المسيحية و الحصول على ثروات الشرق".
لقد كانت الغايات واضحة تماماً بحيث سعى الأيبيريون إلى تجسيد مخطط كان جوهره يمزج بين الأهداف الدينية و الإستراتيجية و يمكن تتبع ذلك من خلال النقاط التالية:
1. القضاء على الوجود الإسلامي في الأندلس بصفة نهائية، فبعد أن لمست الكنيسة علامات الضعف الإسلامي، أصبحت تنشط نشاطاً محسوساً، إذ أصبح أي ملك من الملوك النصارى الأسبان لا يشعر بالطمأنينة مع نفسه و عرشه دون الخضوع الكلي لرجال الكنيسة، بحيث لا يتقدم و لا يتأخر إلا بإشارة منها، أو بوحي من باباواتها، حتى أصبح من المألوف أن لا يقدم أولائك الملوك على اتخاذ أي خطوة حتى في شؤونهم الخاصة دون رأي البابا، و لعل هذا ما تثبته الوثيقة البابوية التي تعود للبابا ألكسندر السادس عام 1493م و التي قال فيها:" نحن نعرف أن الملك و الملكة (يقصد فرديناند و إيزابيلا) مسيحيين كاثوليكيين حقيقيين، ... فلا التكاليف المادية و لا حتى المجازفة بدمائكم الشريفة تمنعكم من الاهتمام و بكل إخلاص و حماسة عن طرد و تحقيق جلاء للقبائل العربية من إمارة غرناطة من طرفكم، و هذا الذي كان منشوداً منذ وقت طويل إلى يومنا هذا، مع تمجيدٍ كبيرٍ من الرب"، و هذا ما يشير إلى توجيه الكنيسة للأحداث الحربية في الأندلس و مباركتها.
2. تحويل ميدان الحرب من الأندلس إلى المغرب العربي و احتلال موانيه، فلقد شكلت سواحل المغرب العربي مراكز للغارات البحرية ضد السفن الإسبانية، إذ كان الكثير من المهجرين الأندلسيين (الموريسكيين) يستقر بهم المقام في مدن شمال إفريقيا و يعملون على الانتقام من الأسبان الذين أخرجوهم من ديارهم،و هنا اكتسبت هذه الغارات البحرية صبغة الجهاد، إذ شاركهم في ذلك العديد من سكان السواحل الإفريقية، هذا فضلاً عن العداء التاريخي الذي كانت تكنه إسبانيا و البرتغال لشمال إفريقيا، و ذلك كونه شكل منطلقاً لتلك النجدات التي كانت ترسلها السواحل الإفريقية إلى مسلمي الأندلس منذ عهد المرابطين و الموحدين ، و هذه الأسباب جعلت غاية كل من الأسبان و البرتغاليين هو الاستيلاء على هذه السواحل و احتلالها لكي لا تجدد دعمها للإسلام.
3. احتلال أقاليم إفريقيا الواقعة جنوب المناطق الإسلامية، فقد كانت البداية مع هنري الملاح الذي أراد الوصول إلى مملكة القديس يوحنا للتحالف معها من جهة، و الوصول إلى مملكة غانا التي ذاعت شهرتها بغناها بالذهب.
4. تطويق العالم الإسلامي و محاصرته، إذ أدرك الصليبيون أن السيطرة على العالم الإسلامي لا يمكن أن تكون إلا عبر الالتفاف على العالم الإسلامي و تطويقه، و هذا ما تشير إليه بعض الأبحاث على غرار دراسة محمود شاكر في كتابه " الكشوف الجغرافية"، حيث ذهب إلى وصف هذه الخطوة على أنها كانت اتفاقاً بين الأسبان و البرتغاليين على الالتفاف حول العالم الإسلامي و توزعت الأدوار بينهم، فبينما يلتف البرتغاليون جنوباً حول إفريقيا، ينطلق الأسبان نحو الغرب عبر المحيط الأطلسي بعدما تأكد لديهم كروية الأرض، و ذلك ليتمكنوا من حصار المسلمين و إحكام القبضة عليهم، و لعل هذا ما جعل ألفونسو دي البوكيرك يقول :" الأمر الأول هو الخدمة الكبرى التي سنقدمها للرب عندما نطرد المسلمين من هذه البلاد،و نخمد نار هذه الطائفة المحمدية حتى لا تعود للظهور بعد ذلك أبداً، و أنا شديد الحماسة لمثل هذه النتيجة،... إذا استطعنا تخليص ملقا من أيديهم فستنهار القاهرة ...و ستنهار بعدها مكة".
5. احتكار الثروة بدلالة نشر المسيحية، إذ كان من بين أبرز غايات البرتغاليين و الأسبان في انطلاقهم نحو الشرق و الغرب هو الحصول على الثروة، و توسيع إمبراطوريتهما لتشمل أكبر مجال من العالم آنذاك، بحيث تأجج حب الكسب السريع و الاحتكار التجاري و اندفع الجنود المتعصبون لتلبية رغبات و غايات ملوكهم التجارية، و لعل هذا ما يثبته المرسوم الملكي الصادر في 30 أفريل 1492من الملك فرديناند و الملكة إيزابيلا و الذي ورد فيه :" أنتم كريستوف كولمب ، بعد اكتشاف و غزو الجزر و القارة الموجودة في المحيط، ستصبح أمير تلك الجزر باسمنا و نائباً للملك و حاكماً عليها... عليك أن تحكم بما نحكم به هنا في مملكتنا، و تقوم باسترجاع الغلات و الأقساط و كل الخيرات الأخرى".
و لهذا السبب كانت دائماً من غايات المستدمرين الأوائل في العصر الحديث السيطرة على موارد الثروة و ليس على طرقها و نقلها و حسب، و لعل هذا أيضاً ما عبر عنه فاسكو دي غاما (1469- 1524م) عندما حط برحاله في الهند 1498م، فسأله حاكم المنطقة عن سبب قدومهم فقال له: " المسيحية ثم البهارات (أي التوابل)" ، و الواقع أن هذه الغايات كانت نفعية بدرجة أولى في إطار تحصيل ثروات طائلة.