بسم الله الرحمان الرحيم:
السلام عليكم
ولد البشير خريف بنفطة، دراسته مزدوجة بالخلدونية يعمل مدرساً وهو من ألمع أدباء تونس ورائد الفن الروائي فيها، كتاباته تنوعات شتى في معنى الحرية من مؤلفاته:
- إفلاس أو حبك درباني قصة 1954
- برق الليل روياة تاريخية 1960
- الدقلة - في عراجينها رواية 1969
- يطرح الكاتب في هذه الرواية "الدقلة في عراجينها" مسألة الأرض كينبوع للمأساة الإجتماعية ويتبعها بطابع تسجيلي انتقادي بمعنى أن عديداً من الشرائح الاجتماعية تتعرض لاستغلال الإقطاع ومن هنا جاءت الرؤية الاجتماعية لدى الكاتب رهينة مفهوم الإطار الفكري المتكيء على الانتساب الححقي والإيديولوجي الماركسي كمعين اشتهر ذلك الوقت، لحل المعضلات وتجاوز الأزمات وتذليل العراقيل والمعوقات، كما امتزج بخليط من المؤثرات الأجنبية وتتجلى لنا ملامح هذه الرؤية معاً كلما أوغلنا في عالمها الفسيح خطوة خطوة...
تمتد حدود الزمان الحدثي في الرواية على مساحة زمنية واسعة جداً تتخللها ثغرات زمنية كثيرة مما يجعل عملية متابعة الخط الزمني تقريبية، يبدو مرة ساطعاً دقيقاً محدداً ويختفي مرات أخرى فلا يكاد يبين، ثم يقفز قفزات زمنية واسعة لا تذكر فيها أية أحداث ، ليأتي فجأة على أيام قليلة فيشحنها بالأحداث والوقائع الكثيرة وهكذا دواليك.
فأحداث الرواية تنطلق في عيد المايّو أي الرابع عشر من شهر ماي وهو عيد قومي لفرنسا"1"، ومع هذا العيد يكون عمر العطراء، ثماني سنوات "2"، وتبدأ الوقائع مع هذه الاحتفالات منتقلة إلى فصل الصيف وفصل الخريف وفصل الشتاء وفصل الربيع، تدور مع الفصول، لتصل الوقائع إلى نهاية الرواية عندما يشير الراوي أن عمر العطراء بلغ الثامنة والعشرين "3"، وقد كان عمرها ثماني سنوات، أي تضاف مدة عشرين سنة مضافاً إليها زمن تقريبي عبر عنه الراوي "وبعد أشهر" أي من رجوع العطراء من العلاج في صفاقص قام الحفناوي وتزوج امرأة ثانية، واستمرت الأمور على هذه الحال حتى وضعت له المرأة الجديدة ولداً، "وانصرف يعجب بوليد وضعته امرأته الجديدة، قالوا إنه كفلقة البدر" "5" ثم مرضت العطراء وتوفيت "6" أي حوالي سنة تقريباً بما فيها فترة الحمل وأشهر الإنتظار، وهكذا يقدر الزمن الحدثي في الرواية بواحد وعشرين سنة تقريباً، بما فيه من ثغرات زمنية كثيرة، ويلاحظ أن الراوي يذكر تاريخ الاضراب الذي قام به العمال التونسيون في معمل الفوسفاط في المتلوي وبقيادة الدبنجق قائلاً: وقع الاضراب في نوفمبر 1928" "7" مما يدفع إلى الإعتقاد أن الوقائع التاريخية لهذه الأحداث جرت في هذه الفترة بين الحربين العالميتين، حيث كانت فرنسا متواجدة في المغرب العربي بما فيه تونس.
رغم أن الرواية كتبت في الستينيات "*" فهي تعالج أحداث تاريخية ماضية مما يجعلها نظرة نقدية متأخرة للواقع الإجتماعي التونسي، تنتشر هذه الوقائع على بساط مكاني محدد في بلاد الجريد، وهي آخر نقطة في الجنوب الغربي في تونس "8" وبالضبط في نفطة التي يسكنها البطلان المكي والعطراء، ثم قرية المتلوي "9" التي تبعد بثمانين كيلومتراً شمال نفطة، وبجوارها قرية فليب طوما "10" حيث مصنع الفوسفات "11" ثم إلى السجن "12" وإلى صفاقص "13"عولجت العطراء، ثم العودة إلى نقطة في نهاية المطاف.
الأحداث والبناء الروائي:
- مظاهر التمدن والاختراعات الأروبية
يتصدر دور البطولة في رواية الدقلة في عراجينها للبشير خريف، كل من المكي بن علي الزبيدي والعطراء بنت المولدي، في إثر خلاف بين خديجة أم المكي مع زوجها بخصوص شراء خلخال ذهبي لها، لطالما وعدها به، ولكنها اكتشفت أن الخلخال كان مغشوشاً، مما أدى إلى سوء علاقتها مع زوجها، فرجعت إلى بيت أخيها المولدي وأخبرت عبد الحفيظ أخاها الأكبر، الذي كان له خلاف مع علي الزبيدي الذي جاءه ليسترد زوجته ولكنه رفض، وهكذا سارت وضعيتها إلى الطلاق حتماً رغم أن خديجة ندمت ندماً شديداً، وأرادت في مرات متتالية أن تعود إلى زوجها، لكنها منحتْ أرضها إلى أخيها "حفة" ولذلك رفض علي الزبيدي، ومع ذلك لم تيأس وظلت تحاول الرجوع رغم أن الحقيدي تزوج بامرأة أخرى، وطوال هذه المدة بقي البطل المكي يزور أمه وأخواله كل خميس وجمعة، وكان يلتقي بابنة خاله المولدي، العطراء ويلعب معها الأرجوحة، ويلعب مع العربي، لكن لم تدم الحال وبسرعة غير متوقعة مرض المولدي فتوفى، وبعده بأيام قليلة وتحت وقع هذه الصدمة تتوفى زوجته تبرْ، وتترك أبناءها لرعاية خديجة.
وينشأ المكي مع العطراء زمناً غير قصير تنمو فيه الذكريات وتزداد أواصر المحبة وثوقاً، و لا يستمر هذا الصفا، حتى يعاود الزمن بضرباته، ويحتد النزاع بين حفّة الذي يمنع أخته خديجة من الرجوع إلى بيت زوجها علي الحقيدي، ويرفع عليه قضايا في المحكمة ويخرج له المنفذ، لاحتجاز حقوق خديجة، لكن خديجة تريد الرجوع، ويسوء حالها فتصاب بمرض خطير وتتوفى، عندها يفترق شمل هذه الأسرة فيسافر المكي والعربي ينخرط في الجيش الفرنسي، أما المكي فينتقل إلى العمل في معمل الفوسفاط، في المتلوي في صفاقص، ويناضل هناك كثيراً مع زملائه العمال وينال رضى "لاكاز" و"بواسييه" مسؤولي المصنع، كما أعجب به العمال العرب وخاصة كبيرهم الدبنجق الذي وصف المكي بأنه مخ ومفكر بالنسبة لباقي العمال خصوصاً وأنه متعلم، وهكذا قام بالتعاون مع الدبنجق وعبد الناصر وآخرين بتعليم العمال القراءة والكتابة، وتوعيتهم بحقوقهم، وتجنيدهم في الإضراب الذي استمر أسبوعاً كاملاً كما وقعت مواجهات مع الفرنسيين خلفت كثيراً من الضحايا وسجن من سجن وفرّ من فرّ.
ثم يمرض المكي ويطول به المرض فيفصل عن العمل ويرجع إلى بلده في نفطة، يتفق مع حفّة على زواجه من العطراء ولكن يموت في مرضه، فتتزوج العطراء مع الحفناوي ابن حفة، وبعد شهرين تمرض بضرسها فيأخذها إلى صفاقص للعلاج، وعند العودة يركبان القطار لكن مؤامرة تدبر لهما فينزل الحفناوي وينطلق القطار، فيصل إلى قفصة، ويبيت الحفناوي بعيداً عن زوجته، وهنا تأتي امرأة مومس اسمها غرسة فتأخذ معها العطراء وهي امرأة لم تخرج أبداً من قريتها، ولم تسافر، وبطرق شيطانية تحتم عليها ما ترفضه وينتهك جلول عرضها وفي الصباح يرجعونها إلى المحطة، فيصل زوجها، ويأخذها إلى بلده نفطة دون أن تبوح له بشيء، وكان ذلك سبب انحلال علاقتها مع زوجها الحفناوي فيتزوج عليها وتمرض فتموت.
- خصومة الأرض ينبوع المأساة الإجتماعية:
تنتقد الرواية موضوع ملكية الأرض وحب الاستيلاء عليها من طرف عبد الحفيظ، الذي يملك منها مساحات معتبرة، إلا أنه ظلّ يتطلع إلى أخذ المزيد منها من أصحابها الفلاحين، وهو ما حدث فعلاً عندما جاءت سنون عجاف فاشترى أراضي الفلاحين، المعوزين بثمن بخس، واستعان في عملية الشراء بأموال أخيه المولدي، الذي كان يرسلها له من المهجر، ولكنه في النهاية قيد كل شيء باسمه، وحرم أخاه من حقوقه فأصبحت شخصية عبد الحفيظ تمثل شخصية الإقطاعي في الرواية.
لذلك اشتد النزاع بينه وبين صهره علي الزبيدي الذي يملك أراض مجاورة له خاصة عندما وقع خلاف بين خديجة وعلي الزبيدي زوجها، لأنه وعدها أن يشتري لها خلخالاً ذهبياً، وهكذا استغل عبد الحفيظ هذا الموقف لتوسيع أراضيه أكثر، بحصوله على نصيب أخته خديجة، ورفض أن يرجعها إلى علي الزبيدي، لكن خديجة ندمت كثيراً على هذا الخلاف الذي استغله عبد الحفيظ، وحاولت طول حياتها الرجوع إلى زوجها لكن عبد الحفيظ أخذ منها أرضها، ولذلك رفض علي الزبيدي ارجاعها بدون أرض، وتزوج بامرأة ثانية وقام عبد الحفيظ بتعقيد الموقف بشكل نهائي، فرفع قضايا في المحكمة ضد علي الزبيدي باسم خديجة وهي رافضة، وتمرض خديجة مرضها الأخير وتدعو بالانتقام من عبد الحفيظ وتتوفى، ومع وفاتها ترجع حقوق الأراضي إلى علي الزبيدي بسبب أبنائها، ولا تتوقف خصومة الأرض عند مأساة خديجة مع زوجها علي الحقيدي، بل تصبح المأساة متوارثة مع إرث الأرض، فعندما يقوم بطل الرواية المكي في نهاية مشواره الذي مرض فيه بخطبة العطراء ابنة خاله المولدي، التي كان يحبها وكانت تحبه ويضغط عليه عبد الحفيظ بأن يتنازل عن خصومة الأرض مقابل زواجه بالعطراء فيوافق ولكن طرفاً آخر يجدد النزاع وهو العروسي أخوه من أبيه، الذي يرفض زواجه من العطراء، مخافة أن يتوفى وهو مريض فترث العطراء من أرضه وتصير في صف عائلة عبد الحفيظ، ويجتهد في بث المشاكل، ونشر العراقيل لأخيه المكي حتى يحول الموت بينه وبين زواجه من حبيبته العطراء.
- الإضراب والنضال العمالي:
بعد الصراع على الأرض وسنوات الجفاف وبيع الأراضي لفائدة عبد الحفيظ، انتقل العمال من الريف إلى صفاقص وبلدة المتلوي حيث مصنع الفوسفاط الضخم، الذي يمتص كثيراً من اليد العاملة ومع وجود الدبنجق على رأس العمال إلى جانب المكي ، الذي لقي استحساناً واسعاً من زملائه، بعد حادثة اصطدام عربات قطار المصنع، وانضمامه إلى حركة العمال بقيادة الدبنجق، ومن ثم شرع مع عبد الناصر في تعليم العمال الكتابة والقراءة وبعد أربعة أشهر من التعليم قرأ أحدهم جواباًً جاءه من أهله، وكان المكي والدبنجق يقضيان الليالي في السهر مع العمال، أما الدبنجق فاقترح بعد رفع الجهل عن العمال وتوعيتهم أن يؤسسوا حزباً مثل الحزب الدستوري في العاصمة تونس.
وقد سبق أن حاول محمد علي أيامها تأسيس حزب مماثل في المتلوي ولكنه فشل، لكن الدبنجق والمكي ضاعفا أعمالهما في توعية العمال وتعليمهم، إلى أن بلغ الوعي درجة التعبئة العامة التي وصلت إلى اقتراح الإضراب وتوزيع المناشير، ثم القيام بالإضراب لمدة أسبوع كامل وما تبع ذلك من حوادث الإعتقالات والمواجهات الخطيرة، التي خلفت كثيراً من الضحايا، علاوة على حملات التفتيش التي قام بها العساكر وما نجم عن ذلك من انتهاك الحرمات وهتك الأعراض، مما أدى إلى وقف الإضراب وأعقب ذلك سجن عدد كبير من العمال، ومثولهمf أمام المحاكم العسكرية الفرنسية، وعلى رأسهم الدبنجق أما المكي فقد أخلي سراحه بعد مثوله أمام المحكمة.
إن المتأمل في رواية "الدقلة في عراجينها" للبشير خريف ينجذب انتباهه إلى الخطوط الأفقية التالية، لما لها من أهمية بصفتها مواقف حدثية أساسية في الرواية:
خصومة الأرض وشراء عبد الحفيظ لأراضي الفلاحين المعوزين ليصير من كبار الملاك.
خصام خديجة مع زوجها علي الحقيدي وتدخل عبد الحفيظ الذي يمنعها من الرجوع إلى زوجها بعد أخذ نصيبها من الأرض.
علاقة المكي بالعطراء ابنة خاله منذ الطفولة وحبهما المتبادل.
النضال العمالي، وتعليم العمال وتوعيتهم بواسطة الدبنجق والمكي، وتعبئتهم للإضراب الشامل.
العطراء تتزوج الحفناوي ابن عبد الحفيظ بعد وفاة المكي.
العطراء تسافر إلى صفاقص للعلاج وما يحدث لها.
إن هذه النقاط المرجعية في الرواية ترتبط جميعاً بفكرة الصراع سواء من أجل الأرض وتوسيع الملكية كما يفعل عبد الحفيظ أو من أجل الحق والعدالة، حينما يدافع العمال عن حقوقهم، والمطالبة بالزيادة في الأجور والمساواة مع العمال الفرنسيين، الذين يشتغلون معهم في معمل الفوسفاط في الأجور والحقوق، ومهما يكن الصراع وصوره وأشكاله فهو ضد الظلم، سواء كان هذا الظلم من كبار ملاك الأراضي مثل عبد الحفيظ الذي أخذ أراضي الفلاحين المعوزين، فانتقلوا إلى معمل الفوسفاط، ليواجهوا ظلماً جديداً في عدم المساواة وهضم الحقوق والمس بالكرامة الإنسانية، فكأن الرواية أرادت أن تسوي بين كبير ملاك الأراضي والقوة الإستعمارية فكلاهما يأخذ الأرض ويمارس الظلم، ومن ثم وجب انتقادهما معاً على حد سواء، إلا أننا نلاحظ أن شخصية العربي أخا العطراء وصديق البطل المكي، يأتي من التجنيد في نهاية الرواية فيجد المكي قد توفى دون أن يتزوج بالعطراء وهي حلم حياته، فيكشف ما يسميه مكائد الشيوخ أو مذهب الشيوخ، وهكذا يحتفظ عبد الحفيظ بالعطراء لابنه الحفناوي ولا يظهر هذا الأمر إلا فجأة عندما يتوفى المكي مريضاً، لكن لا يسعد بها عندما تقوم العطراء فتنتقم لنفسها ولحبيبها وعلى طريقتها هي خلال سفرها إلى صفاقص.
* الرؤية والرواية:
تندرج رواية "الدقلة في عراجينها" للبشير خريف ضمن الرؤية غير المحدودة، وفي نمط الرؤية من الخلف vision par derriere التي يمتلك فيها الراوي جميع فرص القص باعتباره أكبر من الشخصية في العلم فالراوي يروي هنا بصيغة ضمير الغائب المفرد عن البطل المكي وباقي الشخوص الروائية، فهذه العطراء تستيقظ من النوم يروي عنها الراوي بصيغة ضمير الغائب "العطراء"، العطراء، خرجت بنية في الثامنة من عمرها، ما تزال في بذلة نومها، تُميلُ رأسها وتعشش عينيها لتبصر بابن عمتها" "26".
ويقرأ الراوي ما يدور في نفس خديجة من تساؤلات وحيرة بعد طلاقها ومحاولتها الرجوع إلى زوجها علي الحقيدي، وخوفها من أخيها عبد الحفيظ الذي يرفض ارجاعها "بقيت تتساءل" لعل الحق معه؟ فنظره خير من نظرها، له الفضل والشكر لم تجد في نفسها أية ثقة، لو يتركها، وقد فارقها زوجها، ومات أخوها الصديق، فهل تقدر على المسك بزمام مصيرها؟ ألا تذهب حياتها أدراج الرياح؟...."27" فالراوي يسرد الأحداث بصيغة الضمير المفرد الغائب، ويقرأ ما في نفس الشخوص من تساؤلات لا تصرح بها، وهذا يمثل إحاطة الراوي الذي أصبح عالماً بما يخص الشخوص ويتعلق بها.
...................منقول
مجلة الموقف الأدبي - مجلة أدبية شهرية تصدر عن اتحاد الكتاب العرب بدمشق - العدد 312 نيسان "ذو الحجة" 1997