إن الأساطير القديمة بصفة عامة كانت وما زالت مجالاً رحباً ومنهلاً سائغاً للمفكرين والمبدعين على مر التاريخ,
فما من فنان خلد اسمه في سجل الفن العالمي, إلا وقد أدلى بدلوه في
هذه الكنوز الأسطورية التراثية, وصاغ في رواياتها العديد من أعماله الرائعة. وقد ظهرت في أواخر
القرن الثامن عشر مدرسة فنية تقوم على الكلاسيكية الاغريقية واسلوبها من روح تلك العصور المثالية
وبطولاتها الخارقة, لذلك اطلق على هذه النزعة المرتدة آنداك الكلاسيكية الجديدة, وهي التي ظهرت في
فرنسا مع الثورة الفرنسية. وتقوم مسيرة الفن الفرنسي الذي كان قد انحرف إلى البهرجة وإرضاء الميول
الأرستقراطية والنعومة المترفة. كما هدف كذلك إلى بث روح البطولة والحصانة والانتماء إلى الجذور.
وما زالت تلك الاساطير الاغريقية التي تمزج بين الخيال والواقع تثير قرائح المبدعين أدباً وشعراً وفناً بكل
أشكاله وألوانه ونزعاته. وقصة هيلين اوايلينا فاتنة طروادة, أو حصار طروادة أو حصان طروادة أو حرب
طروادة كلها أسماء لحدث واحد ولكنه ملحمي مثير, خلده هوميروس في الإلياذه, فصار أنشودة شعر وأغنية
حب أو صرخة حرب, وآهة غرام واشتياق ولمسة فنية ملهمة في لوحات الفنانين العظام.
ولنبدأ قصة الحسناء التي قتل من أجلها الملوك واستنفرت في سبيلها الجيوش لمدة عشر سنوات كاملة, في
هذه الأسطورة نجد أن (زيوس) أو جوبتر كان معبوداً جباراً سيء السمعة يتعقب النساء, وكانت الملكة (ليدا)
زوجة (تندارس) ملك اسبارطة أجمل النساء لعصرها, وقد حاولت ان تصد عنها هذا العابث المتلصص فاحتاطت
من غدره بالتستر والحراسة والرقابة الدائبة وأحاطها زوجها الغيور بالجاريات والغلمان المسلحين لا يفارقونها
حيثما تذهب, إلا ان جوبتر تخفى في صورة بجعة بيضاء جميلة أحبتها الملكة الحسناء وصحبتها في نزهاتها
الخلوية وجلساتها بين خمائل قصرها, كما كانت تشاركها في حمامها في مياه بركتها المرمرية الخلابة.
وقالت الأسطورة إن ثمرة ذلك الغرام جاءت لائقة بمقام الأب وفتنة الأم وروعة الحدث العظيم, فقد وضعت
(ليدا) ابنة اطلقت عليها هيلين اتسمت بالجمال والبهاء والجاذبية, فاسماها الناس ايلينا الفاتنة.
ولما اكتملت أنوثتها كان على رأس دولة اسبارطة ملك جديد يدعى (مينالاس) وقد ظل يبحث عن فتا
ة رائعة الجمال تصلح زوجة له, فلم يجد أجمل من آيلينا, فشغف بها وتقرب إليها, فبادلته الحب ورضيت
به زوجاً لها وكاد مينالاس أن يطير من الفرج والسعادة, وكانت دولة طروادة في ذلك الوقت تنافس دولة
إسبارطة في السطوة والجاه والرخاء وعلى عرشها ملك مهيب يدعى (بريان), شيد لعاصمته أبراج
اً شاهقة وأسواراً منيعة تحرسها جيوش جرارة للدفاع عنها وتوسيع رقعة أملاك طروادة العظيمة, وحدث
أن أوفد بريان ابنه (باريس) إلى منيلاس ملك إسبارطة ليفاوض في طائفة من شؤون الدولتين القوتين
المتنافستين, فاستقبل الوفد الطروادي في إسبارطة بالحفاوة والتقدير, وفي أثناء الاحتفال الكبير الذي أقي
م احتفاء (بباريس) ومن معه, وقعت عينا باريس على ايلينا الفاتنة فبهر بجمالها, ولم ينم ليله فقد وقع في
غرامها وكان جمال الفتى باريس له مفعول السحر في نفس ايلينا في الوقت ذاته فاحدث بها ذات الأثر,
ونفذت سهام كيوبيد في قلبيهما في نفس اللحظة كما لو كانا على موعد?!
وتقول الاسطورة وهنا كان لا بد من تدخل (إفروديت) ربة الجمال فتهبط إلى الأرض لتربط بينهما برباط
الغرام ولتبارك حبهما الذي استعر في مهجتهما من أول نظرة ورسمت أفروديت خطة اللقاء بينهما. لقد
اختفطف ايلينا من خدرها, كما صحبت معها باريس إلى مكان قصي خارج حدود إسبارطة في جزيرة
نائية تدعى (كراناي) حيث قضى العاشقان شهر العسل هناك ثم واصلا السفر إلى طروادة ولكن ملك
اسبارطة (منيلاس) لن يقف ساكناً وهو يرى زوجته وقد اختطفها باريس ورحل بها دون أن يعمل حساباً
له ولكرامة دولته! وذعر أهل إسبارطة, وروّعهم هول هذا الحدث الرهيب, وهبوا مطالبين بالانتقام والقصاص.
وحشد الإسبارطيون جيوشهم وزحفت جموعهم على طروادة وهم عازمون على دك حصونها وذبح
سكانها ورد
الزوجة الحسناء إلى مليكهم الذي يحبونه ويكنون له كل الإخلاص والولاء, وما إن علم الملوك اليونانيون الآخرون بما حدث لصديقهم منيلاس حتى تطوعوا بالوقوف معه ضد طروادة.
ويذكر هوميروس في الإلياذه ان عدو الدولة اليونانية التي تحالفت مع إسبارطة على طروادة قد بلغ سبعاً وخمسين دولة, وعقد الحلفاء مؤتمراً حاسماً في مدينة (ميسينا) حيث نصّبوا (اجاممنون) ملك (آرجوس) قائداً عاماً لجيشهم الموحد, وهو في نفس الوقت شقيق منيلاس, وزحف اجامنون على رأس مائة الف محارب إلى سواحل طروادة وهاجم أسوارها ولم تكن معركة هينة فقد حشد بريام وابنه باريس وأعوانهما جيشاً عظيم العدد والعدة تحت قيادة هكتوربن بريام شقيق باريس لمنع جيش إسبارطة من الوصول إلى غايته ونيل المرأة التي قامت من اجلها هذه الحرب الشرسة.
ونشبت بين الفريقين مذابح رهيبة ونزال عنيد بين كرّوفر حول أسوار طروادة وظلت الحرب طاحنة بلا هوادة بينهما لمدة عشر سنوات كاملة, لذلك عرفت في التاريخ بملاحم حصار طروادة او بحرب السنوات العشر.
وفي النهاية اقتحم الحلفاء أسوار المدينة واستولوا عليها بفضل الحيلة التي ابتكرها أحد قادتهم وهو (يوليسوس) فقد صنع هذا القائد الماكر حصاناً عملاقاً من الخشب اختبأت في جوفه كتيبة من المحاربين الأشداء, وتركه عند الأسوار الحصينة متظاهراً بالفرار مع جيشه, ووجدها الطرواديون فرصة لتعقبه وجمع الغنائم التي خلفها وراءه, واحتاروا في أمر هذا الهيكل الخشبي الغريب وأجمعوا في النهاية أنه مغنم ثمين سيحتفظون به رمزاً لقهر عدوهم وانتصارهم عليه فأدخلوه إلى مدينتهم بعد أن ظنوا أن عدوهم قد اندحر إلى غير رجعة... وفي جنح الظلام.. وبعد أن اطمأن المحاربون الإسبارطيون القابعون في جوف الحصن إلى استسلام محاربي طروادة للنوم والسكينة. انطلقوا هابطين واحداً تلو الآخر حتى إذا ما اجتمع شملهم فاجأوا أعداءهم من حولهم حتى قضوا عليهم ثم اتجهوا إلى أبواب المدينة ففتحوها لرفاقهم وأعطوهم إشارة الهجوم الساحق من كل اتجاه! ذلك هو حصان طروادة الذي يضرب به المثل منذ ذلك الوقت ويرمز به إلى من تنطلي عليه الحيلة والخديعة فيسهل لعدوه اقتحام حصونه!
وكان هذا الحدث حريّاً بأن يلهم المبدعين بهذا المزج الرائع بين الحقيقة والخيال, وبين الواقع والقصة الأسطورية المثيرة. وبين لسان الغرام الحانية وبراعه الحنكة والدهاء وشهوة الثأر والانتقام وبين النخوة والكرامة وملاحم الشجاعة والبذل والفداء. وبينما كان الملوك والابطال يتطاحنون أمام أسوار طروادة كانت الفاتنة المحبة تقيم في قصر الملك بريام في كنف ابنه باريس الذي اختطفها من خدرها بمباركة إفروديت ربة الجمال وسلطانة العواطف والقلوب الهائمة, كان بريام قد بلغ الشيخوخة التي زادت من ثقلها على كاهله تلك الحرب الرهيبة, ولكنه كان يظهر الود لإيلينا وهي أصل البلية والدمار, يأمر الحاشية وشعبه بان ينظروا إليها كزوجة شرعية لابنه باريس, اما صاحبتنا ذات السحر والجمال والدلال فقد تلاطمت في صدرها مشاعر متناقضة, فهي تارة تحّن إلى بيئتها الإغريقية وتهفو إلى وطنها الذي ترعرت فيه وتندم على ما بدر منها نحو زوجها منيلاس من خيانة وغدر, وهو الذي هام بها حباً, وتفانى في إسعادها والترفيه عنها.
وتارة أخرى تنسى ذلك كله وتتغنى بحب باريس وبكرم الطرواديين وبما تنعم به في القصر الملكي من سعادة ونعيم, بل إنها كثيراً ما تضرع إلى آلهتها أن تنصر حبيبها باريس على زوجها وحلفائه. أما الطراوديون فهم بين شقيَّ الرحى, فكانوا يحقدون عليها لأنها جلبت لهم الخزي والدمار ولكنهم في الوقت ذاته ينظرون إلى تلك الأحداث الجسيمة على أنها دفاع عن دولتهم وكرامتهم, وقد تتعدد الأسباب ولكن الصدام بأهل إسبارطة واقع لا محالة, وكانوا يتوقعونه بين يوم وآخر, لأن التنافس على القمة هو سبب كاف لان تحدث هذه المجابهة لسبب واقع أو مفتعل أو لخطأ متعمد أو غير متعمد, أو لغير سبب على الإطلاق! ويهمس الظرفاء منهم بهمسات كأنها مناجاة, ان هذا الجمال الرائع لجدير بأن تسيل من أجله الدماء فتنبت الزهور حول أسوارها الشاهقة الموحشة! بين ذاك وهذا دارت المعارك, الطاحنة الجسورة, وكانت الغلبة بعد خديعة الحصان الخشبي العملاق لأنصار طروادة, فدكّوا أسوارها وأحرقوا فيها الأخضر واليابس وذبحوا كل من وقع في قبضتهم من اهلها, وأطبق المهاجمون على القصر وسكانه, ورأى بريام أبناءه وهم يذبحون أمامه ذبح الطيور, فاستسلم للمهاجمين ولكنهم صرعوه ليلحق بحاشيته وأبنائه ولم يبق في القصر إلا النساء, هكوبا وزوجته وكاسندرا ابنته. واندروماك زوجة ابنه هكتور الذي قاد جيوشه المهزومة فساقوهم إلى الأسر, وسلبوا من المدينة التعسة كل ما وقع في أيديهم.
أما إيلينا فقد خصص لها جيش كامل للحفاظ عليها والعودة إلى زوجها في سلام, واستقبلتها إسبارطة عن بكرة أبيها بالبشْر والترحاب بعد أن شاع عنها وقتها بأنها غلبت على أمرها واختطفها الغاصبون عنوة ولم يرحموا تضرعاتها وتوسلاتها.
استأنفت إيلينا الفاتنة حياتها الأولى بدون أن يؤنبها ضميرها على شيء مما فات, بل إنها لم تعد تفكر في تلك المجازر التي اثارتها بين الملوك والشعوب, كيف لا والكل من حولها ينعم بالسعادة لعودتها وإطلالتها البهية على شعبها المفتون بجمالها وسحر طلعتها.
وتقول الأسطورة في نهاية المطاف إن زيوس من آلهة اليونانيين القدماء راى أنه لا يليق به وبمكانته ان يدع الموت يسطو على حياة ابنته إيلينا فقرر أن يرفعها حية إلى مقره وان يشمل بهذه المكرمة كذلك زوجها (منيلاس).