إن الحديث عن القصة الجزائرية القصيرة يحيلنا إلى تتبع المحطات التي سلكتها حتى وصلت إلى ما هي عليه الآن. ولعلنا لا نضيف جديداً في هذه الوقفة بقدر ما نمهد لموضوعنا الذي لا ينبغي أن يؤسس بمعزل عن هذه الخلفية المنهجية التي يتطلبها البحث.
أقول هذا لأن كثيراً من التوطئات التاريخية قد أحاطت بموضوع القصة العربية في الجزائر إلى جانب دراسات أكاديمية أخرى تمحورت حول شكلها ومضمونها من قبل أساتذة مختصين كعبد الملك مرتاض وعبد الله الركيبي وآخرين. وفي الحقيقة أن الدارس للقصة الجزائرية والمتتبع لأطوار نموها لا يجد صعوبة كبرى في الوقوف على ملامحها سواء من حيث المضامين التي تناولتها أو من حيث شكلها، لأنها نشأت في الأدب الجزائري متأخرة إذا قورنت بجنس الشعر الذي لقي اهتماماً كبيراً من قبل المؤسسات الثقافية آنذاك.
فمفهوم الأدب الذي كان منطبعاً في الأذهان هو جنس الشعر، كونه يعود إلى الارتباط اللاشعوري بالبيئة العربية القديمة التي كانت تتنفس الشعر في حلها وترحالها وتعده المرجعية الأساس لكل تعبير ثقافي "فلم يكن هناك أصلاً اهتمام بالقصة كفن قائم بذاته، بل أن مفهوم الأدب كان ينحصر في الشعر وحده"(1).
ومما زاد في تعميق هذه الهوة وإبعاد كل ما هو نثر ذلك الارتباط القوي بفضاء الشعر والذي يعود –كما أشرنا- إلى فكرة: الشعر ديوان العرب.
وقد رسخت بعض الجرائد آنذاك هذا المشهد فكانت جريدة البصائر مثلاً تخصص بابا للأدب الجزائري لا تنشر فيه إلا الشعر… مما فرض غربة على فن النثر، وشعور كتابه بالحيف، وفي هذا المعنى يشير عبد الملك مرتاض إلى "أن هذا الفن كان غربياً في الجزائر لدرجة أن البعض كان يوقع قصصه باسم مستعار"(2).
وهذا ما يجعلنا نقر أن ظروفاً كانت وراء تخلف جنس القصة في الجزائر مقارنة بمثيلتها في المشرق العربي التي بدأت في تشكيل خطابها المتميز لتزاحم في ذلك الشعر "ففي الوقت الذي كان من الممكن أن تستفيد القصة الجزائرية من القصة العربية تأخرت إلى ما بعد الحرب العالمية الأولى بسبب تأخر الثقافة في الجزائر"(3).
وهكذا استمر هذا الشعور مرافقاً لأغلب كتاب النثر الجزائري حتى امتزج بتبلور الشعر الوطني بعد الحرب العالمية الأولى وظهور الحركات السياسية والوطنية ثم مناداة الحركات الإصلاحية بالرجوع إلى التراث القومي من لغة وتاريخ ثم الاتصال مع الشرق، وهكذا… وهو ما تؤكده مقولة الهادي السنوسي:
"من منا معشر الأدباء الجزائريين من لم يفتح عينيه منذ انتهت الحرب الأولى الكبرى على آثار مدرسة إسماعيل صبري وحافظ وشوقي، وطه وأحمد أمين"(4). فالفن القصصي كان خلال العقد الرابع من هذا القرن في الجزائر لا يزال يدرج درجاناً فيه كثير من الخجل والفتور، ولم يعرف النثر الأدبي في الجزائر قبل الحرب العالمية الثانية قصة واحدة فنية بكل ما يحمل اللفظ من مدلول الفنية في الأدب "بيد أنه من الظلم إنكار ما كان لظهور بعض المحاولات من آثار طيبة على حياة الفن القصصي فيما بعد الحرب الثانية، فقد أقامت هذه المحاولات الأساس ومهدت الطريق ورسمت بعض المعالم"(5).
يؤرخ عبد الملك مرتاض ميلاد أول قصة على يد محمد سعيد الزاهري الذي نشر محاولة بعنوان فرانسوا والرشيد، وهي محاولة "نالت إعجابا شديداً لدى المثقفين الجزائريين، وأثارت ضجة أدبية كبرى لموضوعها الجريء"(6). ومنذ ذلك الوقت وهي "تدرج ثم تحبو على يد الرعيل الأول من أمثال الزاهري وعابد الجلالي، وأحمد بن عاشور"(7).
وفي الواقع أن الدافع إلى كتابة هذه المحاولات التي تفتقر إلى مفهوم القصة بمعناها الفني، والتي كانت في نفس الوقت المرجع في تشكيل هذا الجنس الأدبي في الجزائر "لم يكن دافعاً أدبياً بقدر ما كان دافعاً لخدمة الفكر والدعوة الإصلاحية، وشرح أفكارها بأسلوب قصصي يمكن القارئ من أن يتلقى الأفكار الإصلاحية ويتفهمها"(
.
وهو ما ظهر جلياً في محاولات الزاهري في كتابه: "الإسلام في حاجة إلى دعاية وتبشير" وهي إرهاصات أولية تتوفر بشكل نسبي على عنصر القص، حاول كتابها أن يميزوها عن المقال الخطابي الضيق، غير أن النظرة السلفية للأدب تظافرت مع الذوق السائد للحيلولة دون أن تصل محاولاتهم إلى ما كانوا يصبون إليه(9). فلم تبرح دائرة التصوير الفج، والنظرة السطحية فكانت نماذج يغلب عليها تقليد الأشكال القصصية القديمة كالمقامة، أو أدب الرحلات. وقد يعود هذا الانتكاس إلى اللغة نفسها بحيث لم تشهد تطوراً، ومرونة بعد أن ارتبطت بالحركات الإصلاحية السلفية التي كان همها أن تعود اللغة كما كانت في سالف العصر، لغة شعر وخطابة(10). وهكذا استمرت هذه "المحاولات المحتشمة تتأرجح بين الصورة القصصية والحكايات"(11) موظفة عنصري السرد والحوار الخارجي الذي تلتصق جذوره بالقصص الشعبي… وهذا نص يحيلنا إلى شكل من هذه الأشكال القصصية التي ظهرت في تلك الفترة، يقول محمد بن العابد الجلالي: فقال هو: "ما الذي تعنين بلفظ الإنسانية هذا، يجب الاحتراز في فهم معنى اللفظ، إذا كان لفظ الإنسانية في نظرك يشمل تلك الطبقات المنحطة الجاهلة، فأديسون، وماركوني أعقل من يجهدا أفكارهما في إسعاد تلك الكمشة المبتذلة التي ما خلقت إلا للسحرة"(12).
أما بعد الحرب العالمية الثانية، فقد قويت الثقافية مع المشرق العربي بالبعثات والوفود، وكان لهذا الانفتاح أثره في تغيير النظرة السلفية للأدب بشكل عام، وللخطاب بشكل خاص. فغدا الكتاب يحاولون بشيء من الجرأة اقتحام هذا الجنس الأدبي بنظرة تجاوزية، بحيث ابتعدوا عن تلك الرؤية السكونية التي يغيب فيها عنصر الحيوية، وسمات الشخصية، فكان أن هزت هذه الانتفاضة الثقافية مشاعر الكتاب الجزائريين لتمدهم بديناميكية جديدة خرجوا على إثرها من دائرة النمطية المغلقة ليعانقوا أفقاً أرحب في مجال الإبداع، وهكذا ظهر جيل جديد طرح قضايا ما كانت لتطرح في تلك الفترة كقضية المرأة مثلاً، التي تبناها أحمد رضا حوحو.
وهو أول من خصص لها مقالات منفردة، ثم زهور ونيسي، وآخرون بعد أن اقتنعوا بأن فن القصة في الجزائر يجب أن يخطو خطوات إلى الأمام كما هو عليه في المشرق.
ولعل هذا الوعي بتخلف فن القصة في الجزائر هو الذي أدى برضا حوحو إلى أن ينشر مقالاً بجريدة البصائر يطلب فيه من الكتاب أن يهتموا بكتابة القصة لهدفين:
الأول : النهوض بالأدب بشكل عام.
الثاني : هو ما أطلق عليه التقويم الخلقي والاجتماعي(13).
وهذا الاعتراف من الكاتب أحمد رضا حوحو كاف ليظهر أن فن القصة العربية في الجزائر كان يمكن له أن يقوم بالكثير لو ترك له المجال، ولم يهمش أيام الحركة الإصلاحية، حيث الشعر هو السيد، وقد عجز وحده عن احتضان هموم الإنسان الجزائري وقضاياه الاجتماعية الحساسة في تلك الفترة الصعبة. وهكذا بقي هذا الجنس النثري يتراوح بين الحكايات والصور القصصية، التي حاولت أن تقبض على الزمن القصصي بمعطياته الفنية، لكنها عجزت، فكانت قصة غير ناضجة "يمكن اعتبارها تأسيساً لجنس القصة بمفهومها الجمالي في ما بعد"(14).
واستمرت هذه النمطية في الكتابات مع اندفاع حماسي أحياناً في محاولة لتطوير هذا الفن وتخليصه من ثقل الأسلوب وتحجر اللغة، "فكانت الدعوة صريحة لجرأة قلمية، وتهجم فكري على ما لم يسبق طرقه من
المواضيع"(15).
وعلى هذا يمكن الحديث عن تطور نسبي لفن القصة في الجزائر بعد الحرب العالمية الثانية حيث انتشرت الصحافة العربية في الجزائر، وعادت الحياة إلى سيرتها الطبيعية "فظهر كتاب جدد، أخذوا يعالجون الفن القصصي ويتعاطونه بشيء من الفهم والنجاح معاً كرضا حوحو، أحمد بن عاشور وأبو القاسم سعد الله، وعلى أيديهم اتسعت المضامين، فشملت الوطني الاجتماعي والنفسي"(16).
وقد كان لذلك تأثيره في اقتحام الكتابة في مجال القصة. ومن المرتكز نفسه يمكن اعتبار هذه المرحلة جديدة سواء على مستوى المضامين أو على مستوى النضج الفني الذي ظهرت فيه قصص هذه الفترة، وهذا شيء طبيعي لأن ميلاد القصة الفنية في الجزائر لم يأت إلا بعد مراحل، "فلم يكن تطورها مفاجئاً، وإنما سارت في طريق التطور ببطء"(17).