في البداية…
لا أحد ينكر أن القصة العربية قد مرت بمراحل عدة، وهي تسعى لتشكيل خطابها المتميز سواء على المستوى الفني أو المضموني وهي بذلك لم تخرج عن دائرة تطور فن القص العالمي، خاصة بعد تطور مناهج العلوم، والنقد الحداثي بطروحاته الجديدة.
ولعل منطق التطور يفرض أن القصة في الجزائر لا يمكن لها أن تكون خارج هذه الدائرة، فلقد مرت بمراحل تواكبت مع نمو الوعي الثقافي، حيث كان حضورها قوياً في كل ما تعلق بالواقع الجزائري آنذاك. ولقد تلمست هذه الظواهر بعض الدراسات النقدية التي تتبعت الخط البياني لتوجه هذا الجنس الأدبي واهتماماته، وكان التركيز منصباً خصوصاً على فترة الأعوام السبعين التي عكست فيها القصة الجزائرية التحولات الاجتماعية والسياسية في الجزائر.
وأعتقد أن فترة ما بعد هذه التحولات قد عرفت الجديد، بحيث فتر عنف المضمون في الكتابات النثرية خاصة، وتم التراجع عن بعض الأفكار التي شهدها العالم، وقد انعكس ذلك على ميدان الأدب والدراسات النقدية، وبدأ خطاب جديد يتشكل وفق هذه المتغيرات يحمل خصوصياته المتفردة، إلا أن ما كتب من قصص بعد المرحلة المذكورة سواء منها المطبوع في مجموعات أو المنشور عبر الدوريات مجزءاً بقي خارج الدراسة بمعناها العلمي عدا ما يتصدر صفحات الجرائد غير المتخصصة، وهي وقفات انطباعية، لم تستطع أن تضعها في سياق تطورها، انطلاقاً من منطق التطور كما أشرنا…
ومن هنا كان اهتمامي كبيراً لمساءلة هذا الموضوع مع علمي أن جيلاً جديداً يكتب القصة بمنظور مخالف لمن سبقه، وهو بذلك يبلور تجربة جديدة، يحاول من خلالها التمرد على كلاسيكية الطرح، وقيود الشكل التي حاصرت قصص المرحلة السابقة.
وقد كنت متحمساً لطرق هذا الموضوع –على الأقل- لأظهر من خلال دراسة بعض النماذج أن ما كتب في هذه الفترة هو مخالف لسابقتها، وبتأطير زمني ومكاني، واختلاف في التوجه والرؤية، إلى جانب ما تطرحه المثاقفة والتناصية في فترة تعرف فيها العلوم الإنسانية أوج تطورها. ولقد كان حتمياً أن تدرس هذه المرحلة، ومميزات فن القصة فيها لأنه –وفي حدود معرفتي- أن القصة العربية جميعها قد عرفت تحولات في هذه الفترة، ولا ينبغي، بل ولا يعقل أن لا يشمل التغير فن القصة في الجزائر.
وقد أدرجت في هذا الكتاب نصوصاً من مجموعات قصصية وبعضاً مما هو منشور بصحف ومجلات وطنية، رأيت أنها تمثل النموذج لوجه الاختلاف بين المرحلتين، وهي لمبدعين أراهم يتعاملون مع الإبداع أولاً، قبل أن ينشغلوا بالمضامين التي أساءت إلى القصة الجزائرية في الفترة السابقة، وقد تتبعت فن القصة الجزائرية منذ بداية تشكلها ومراحل تطورها، وما تطرقت له من هموم المجتمع، ثم ركزت على الأعوام السبعين، وهي فترة تميزت فيها القصة الجزائرية بعنايتها بالمضمون خاصة.
ثم عرجت إلى بنية اللغة في القصة الجديدة، حيث أظهرت من خلال نماذج تطبيقية أن اللغة عند هذا الجيل، هي كشف وتجاوز للمثال، فهي وسيلة للإيحاء وليست أداة لنقل معان محددة، وقد استطاع هؤلاء الكتاب التخلص من أسر المضمون الكابح، بحيث توصلوا من خلال تجربتهم الجديدة إلى أن الفصل بين لغة الأثر الأدبي ومضمونه من شأن أن يحول دون النفاذ إلى صميم نوعيته فكانت اللغة عندهم هي الوسيلة والغاية في آن واحد. لأنهم –الجيل الجديد- أسسوا من خلالها خطابهم القصصي المتميز.
ولعل تركيزي على اللغة يعني شيئاً واحداً، أنها المفتاح والأداة التي تجعل النص ينفتح على عوالم شتى حيث يتشكل المضمون وفق رؤى انزياحية يلعب فيها الرمز وجدليات المكان والزمان الدور الأكبر.
وقد أفضى بي ذلك إلى تحليل بنية السرد حيث درست البنية السردية في الخطاب القصصي الجديد فوجدتها تتشكل وفق رؤية حداثية تتكسر فيها النمطية الخطية، ويخضع النص فيها لجدلية المغايرة والإدهاش، وانمحاء النمطية سواء على مستوى الضمائر أو الشخصيات التي تفرض حضورها في النص التقليدي إلى جانب ما عرفته القصة الجديدة بشكل عام من تقنيات حداثية كطرائق الحكي، وانفتاحية النص على عوالم غاية في الغموض.
ثم أشرت إلى تقنيات التعامل مع الزمان في قصص هذا الجيل، بحيث أصبح الزمن ومع ما أضافته الدراسات الحداثية لـه، والفلسفية خاصة، من تقنيات غاية في التجريد، أصبح لـه مفهوم آخر، فلم يعد ذلك الزمن الكرنولوجي، التعاقبي الذي يسير متواطئاً مع الحدث إلى آخر المطاف، بل أضحى يشاكس الأحداث ويتجاوزها متماوجاً بين النفسي والأسطوري والغيبي، وهو ما جعل القصة الجديدة لا تستقر على حال مما يستدعي قراءة فطنة وحذرة تؤطرها التجربة.
وكنت دائماً أشير إلى أن هذه التشكيلات الفنية الجديدة إنما تخضع لتحولات ثقافية ونفسية أطرت عالم الكتابة، بحيث انتقلت من سلطة النموذج إلى فاعلية التجريب. ومهما يكن الأمر، فهذه دراسة تبقى مجرد محاولة لمساءلة فترة تميزت بكتابات قصصية كثيرة نسبياً دون أن يسايرها نقد يؤطر مسيرتها، ويوجهها ولعلها تكون فاتحة لمساءلات أخرى أكثر انفتاحية وأشد صرامة.
بشار ماي 2000
عبد القادر بن سالم