خصائص العمل المسرحي
الدكتور أحمد زياد محبك
الأحد 21/12/2008
المسرح هو أبو الفنون، وقد سمي كذلك لأنه يجمع الآداب والفنون كلها، فهو يقوم على الأدب شعره ونثره، كما يقوم على الموسيقا والرقص والغناء والحركة، ويعتمد على الإضاءة والهندسة والعمارة والنحت، من خلال اعتماده على الديكور،
ولذلك يحتاج المسرح على خبرات وطاقات متعددة ومتنوعة ومختلفة، كما يحتاج إلى عناصر فنية كثيرة، ويحتاج إلى مكان وتمويل، ولذلك لا بد للمسرح من جهة ترعاه، وعلى مر التاريخ كانت ترعاه البلدية، وتقوم بتمويله، أو يرعاه الملوك والأمراء، أو الأغنياء، وفي الحالات كلها لابد من تضافر قوى وإمكانات متعددة لينهض المسرح.
والمسرح بعد ذلك كله ليس نصاً يكتب، أو يترجم، إنما هو نص يكتب لأجل فرقة تقوم بتمثيله، ولجهة تقوم بتمويله، وفي عهد الإغريق كان سوقوكليس يكتب المسرحية ويقوم بإخراجها بنفسه، وكان يكتبها لتمثل في عرض ضمن مسابقات مسرحية، وما كان يكتبها لتكون أدباً أو مجرد نص، وكان وليم شكسبير ممثلاً في فرقة، وكان يكتب لهذه الفرقة، أو لمخرج يطلب منه أن يكتب له مسرحية، وما فكر في كتابة مسرحية لتكون نصاً مطبوعاً يقرؤه قارئ، بل كان يكتب نصاً وفي ذهنه ممثلون ومنصة ومخرج، وهو يتخيل كيف ستعرض مسرحيته.
وأهم ما يميز المسرح هو الفعل، أي الحدث، فالحوادث والأفعال هي التي تشد المتفرج، لا الأحاديث والأقوال، والحوادث يقود بعضها إلى بعض وفق السبب والنتيجة، ولا بد لهذه الحوادث أن تتطور نحو التعقيد والتأزم، ثم يكون بعد ذلك الحل، والحوادث التي تجري على المسرح هي حوادث وأفعال غير حقيقة، تقوم على الإيهام، والمتفرج يعرف أنها غير حقيقة ولكنه يصدقها، وينفعل بها ويتأثر، بل يستمتع لأنها غير فعلية، لأنها لو كانت فعلية لأثارت اشمئزازه ونفوره، ولرفضها، فأفعال السرقة والقتل مقبولة على منصة المسرح، ويبتهج لها المتفرج، ويسر، لأنه يعرف أنها غير فعلية، وهو يرفضها في الواقع ويدينها، ومن هذه المفارقة تنبع متعة الفن، فما يجري على خشبة المسرح هو فن، ومحاكاة للواقع وليس الواقع نفسه، والمتفرج يدرك أن الممثل الذي قتل على خشبة المسرح لم يقتل، وأنه سينهض بعد قليل، ولكنه مع ذلك يستمتع بما يرى.
ويمكن أن يقاس على ذلك الحوار نفسه، فالمتفرج يدرك أن الحوار الذي ينطق به الممثل هو من تأليف الكاتب، وأن أي عاشق في الواقع لا يمكن أن ينطق بكلمات الغزل التي يلقيها الممثل، ويدرك أنها فن، وهو يستمتع بها، كذلك كلمات العتاب أو الخصام أو التفاوض أو المؤامرة لا يمكن أن تكون في الواقع على نحو ما هي عليه في المسرح، فهي في المسرح مرتبة مدروسة معمقة وبعضها يقود إلى بعض، بخلاف الحوار في الواقع الذي يقوم على الفوضى والتداخل والعفوية والارتجال، ولا يمكن أن يكون على نحو ما هو عليه في المسرح، ,إن أكثر الناس بلاغة لايمكن أن يتكلم في الواقع اليومي بمثل ما يتكلم به الممثل على خشبة المسرح.
إن الحوار في المسرح مركز ومدروس ومكثف بعناية ومترابط ولا يجوز فيه التكرار أو التداخل، هو حوار فني، يترابط مع سائر عناصر المسرحية، ولابد من يتفق والحدث والشخصية والموقف. إن الحوار على خشبة المسرح هو حوار فني، وضعه كاتب، وأعاد النظر، وصاغه بفنية، ليناسب الحدث والشخصية، وليناسب الإلقاء، وهو لا يشبه في شيء الحوار المرتجل في الشارع أو السوق بين اثنين مهما علت ثقافتهما، بل إن الحوار الذي يكتبه الكاتب للمسرح لا بتكلم هو بمثله في الحياة اليومية، هو حوار فني، ولو كتب المؤلف الحوار باللهجة العامية لما كانت هذه اللهجة على المسرح هي نفسها اللهجة التي يتكلم بها الناس، وتبقى على المسرح ليست كما هي عليه في الواقع، هي لغة فنية سواء أكانت عامية أو فصيحة. ولكن لا بد أن يكون الحوار معبراً عن الشخصية وممثلاً لها ومصوراً لعالمها الداخلي والخارجي وأبعادها النفسية والاجتماعية، المهم في الحوار أن يكون كلام الطبيب في المسرحية معبراً عن شخصية الطبيب، وحوار النجار معبراً عن شخصية النجار، سواء أكان الحوار بعد ذلك بالعامية أو الفصيحة أو كان شعراً أو نثراً.
والمسرح لا يقوم على الحوار، إنما يقوم على الصراع، فالحوار فيه مجرد وسيلة، أما الصراع فهو المحور الأساسي في المسرح، وهو عموده الفقري، وقد ينهض المسرح من غير حوار، كما في المسرح الإيمائي، والحوار وحده لا يصنع مسرحاً، ولذلك ليست المشكلة في المسرح هي مشكلة حوار، أي إن المشكلة ليست مشكلة لغة، وقد توهم كثير من الدارسين فاثأروا مشكلة العامية والفصيحة في المسرح، وهي مشكلة مفتعلة، الحوار المسرحي يعتمد على لغة الحس والحركة والانفعال والموقف، وهي لغة فنية، تتجاوز مشكلة العامية والفصيحة، إلى مشكلة أهم، وهي مشكلة الأداء الفني الذي يؤثر في المتلقي، وليس من الضرورة أن يتكلم الممثل على المسرح كما تتكلم الشخصية في الواقع، وغنما من الضروري أن يلقي الممثل على المسرح إلقاء فنياً يؤثر في المتلقين، ويقود على تطوير العمل الفني، وتوضيح ملامح الشخصية في مستواها الاجتماعي وثقافتها وخصوصيتها الشخصية.
ويبقى الصراع أساس المسرح، وهو صراع بين قوتين اثنتين، تكون إحداهما الطاغية والمسيطرة على قوة أخرى، ويمتد الصراع، ويقوى، حتى يظن المتلقي أن هذه القوة ستظل هي المسيطرة، ولكن ما يلبث التحول أن يأتي، فتنقلب الموازين، وتهزم القوة المسيطرة، وتنتصر القوة المغلوبة وتصبح هي الغالبة، ولا يعني هذا بالضرورة انتصار الخير، بل يمكن أن يهزم، وتبدو هزيمة الخير وانتصار الشر أقوى تأثيراً في النفس،
ومثل الشخصيات كمثل الأفعال والحوار، فالشخصيات على خشبة المسرح يؤدي أدوارها ممثلون، وهم ليسوا الشخصيات نفسها، وإنما يؤدون أدوارها بفنية وتقانة عالية، فحواراتهم ونبرات أصواتهم كلها مدروسة لتكون فناً يؤثر في المتلقي، وهي تشبه مثيلاتها في الواقع، ولكنها تتفوق عليها بأنها أكثر نضجاً وأكثر تكاملاً، ولا يمكن للشخصية في الواقع اليومي أن تكون مثل الشخصية على خشبة المسرح، فالشخصية في المسرح تختزل نماذج بشرية وتمثلها،
والممثل على خشبة المسرح ليس هو نفسه الشخصية، فقد تكون الشخصية شريرة أو فاسدة، وليس الممثل كذلك بالضرورة، فالممثل يقوم بدور الشرير ويقوم بدور الخير، ويقوم بدور القاضي في عمل وبدور اللص في عمل، بل قد يقوم بالدورين في عمل واحد.
وكثيراً ما يوحي الممثل للمتفرجين بأنه تقمص الشخصية، وأنه اندمج في الدور، ويتوهم المتفرج أن الممثل قد أصبح الشخصية نفسها، ولكن الأمر لا يعدو كونه موهبة وخبرة ودراسة ومما لاشك فيه أن الممثل يدرس الشخصية ويفهماها، ويؤدي دورها، وينفعل بها، ولكنه لا يتقمصها، ولا يصل إلى حالة من الاتحاد بها، ولو أنه فعل ذلك لفشل، لأنه سينسى دوره، وسينسى الحوار الذي حفظه، والحركة التي أتقنها، ولخرج عن الدور الذي رسمه المخرج له، وهو في موقف ما يبكي، ولكن في موقف لا حق يضحك، ولوأنه تقمص الموقف الأول وعاشه فعلاً لما استطاع الخروج منه إلى موقف آخر مختلف.
إن كل ما هو على المسرح فني وليس حقيقياً، ولمتفرج يعرف ذلك، ولكنه في لحظة ما ينسى ذلك أيضاً ويحدث اندماج المتفرج في الواقع الفني على خشبة المسرح ويتوهمه واقعاً فعلياً، وما هو كذلك، وسرعان ما يخرج المتفرج نفسه من هذا الوهم، ويدرك ثانية أنه أمام فن، ومن هذا التوتر بين ما هو فعلي ووفني، تحدث متعة الفرجة، أو متعة العرض المسرح، سواء بالنسبة للمتلقي أو الممثل.