الرِّحلات، أدب. أدبالرحلات ذلك الأدب الذي يصور فيه الكاتب ما جرى له من أحداث وما صادفه من أمور فيأثناء رحلة قام بها لأحد البلدان. وتُعد كتب الرحلات من أهم المصادر الجغرافيةوالتاريخية والاجتماعية، لأن الكاتب يستقي المعلومات والحقائق من المشاهدة الحية،والتصوير المباشر، مما يجعل قراءتها ممتعة مسلية.
عرف العرب أدب الرحلاتمنذ القدم، وكانت عنايتهم به عظيمة في سائر العصور. ولعل من أقدم نماذجه الذاتية،رحلة التاجر سليمان السيرافي بحرًا إلى المحيط الهندي في القرن الثالث الهجري،ورحلة سلام الترجمان إلى حصون جبال القوقاز عام 227هـ، بتكليف من الخليفة العباسيالواثق، للبحث عن سدّ يأجوج ومأجوج، وقد روى الجغرافي ابن خُرْدَاذْبـُهْ (ت 272هـ) أخبار هذه الرحلة. ثم تأتي رحلات كل من المسعودي (ت346هـ) مؤلف مروج الذهب،والمقدسي صاحب أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم، والإدريسي الأندلسي في نزهةالمشتاق في اختراق الآفاق، هذا إلى رحلة الرحالة المؤرخ عبد اللطيف البغدادي (ت 629هـ)
وتأتي رحلة البيروني (ت 440هـ)، المسماة تحقيق ما للهند من مقولةمقبولة في العقل أو مرذولة، نموذجًا فذًّا مخالفًا لكل ما سلف، إذ تُعد وثيقةتاريخية هامة تجاوزت الدراسة الجغرافية والتاريخية إلى دراسة ثقافات مجتمعات الهندقديمًا، ممثلة في لغاتها وعقائدها، وعاداتها، مع عناية خاصة باللغة السنسكريتية،وهي لغة الهند القديمة، إذ يتناولها البيروني بالتحليل، ويقارن بينها وبين اللغةالعربية على نحو جديد. وقد أعانه على ذلك إتقانه اللغة السنسكريتية، وثقافتهالواسعة، وميله إلى التحقيق والدقة، فضلاً عن إقامته الطويلة بالهند، حيث قاربتالأربعين عامًا. وكان البيروني قد دخلها برفقة السلطان محمد الغزنوي عند فتحهالهند، ثم انطلق سائحًا متأمِّلا.
ويعد القرن السادس الميلادي وما يليه منأكثر القرون إنتاجًا لأدب الرحلات. وهنا يطالعنا ضمن النماذج العديدة نموذجان هما: رحلة ابن جبير الأندلسي (ت 614هـ). انظر: الجبير. وهي في الواقع ثلاث رحلات، أولاهاإلى مكة للحج، وثانيتها للمشرق وقد استغرقت عامين (585 - 587هـ، 1189 - 1191م)،والثالثة للمشرق أيضًا، قام بها وهو، آنذاك، شيخ كبير أراد أن يتعزَّى عن فقد زوجتهعام 601هـ، ولم يعد، بعدها، للأندلس بلده، بل مكث قرابة عشر سنوات متنقلاً بين مكةوبيت المقدس والقاهرة مشتغلاً بالتدريس إلى حين وفاته بالإسكندرية، وسجل لنا مقاومةالمسلمين للغزو الصليبي بزعامة نور الدين وصلاح الدين، كما وصف مظاهر الحياة فيصقلية وبلاط النورمان، في لغة أدبية وتصوير شائق، هذا فضلاً عن وصفه مظاهر الرغدوالحياة المزدهرة في مكة المكرمة.
والنموذج الثاني في أدب الرحلات يمثله ابنبطوطة (ت779هـ)
وهو أعظم رحالة المسلمين، وقد بدأت رحلته عام 725هـ منطنجة بالمغرب إلى مكة المكرمة، وظل زهاء تسع وعشرين سنة يرحل من بلد إلى بلد، ثمعاد في النهاية ليملي مشاهداته وذكرياته على أديب كاتب يدعى: محمد بن جُزَيّ الكلبيبتكليف من سلطان المغرب وسمَّى ابن بطوطة رحلته تحفة النظّار في غرائب الأمصاروعجائب الأسفار. وروى ابن بطوطة مشاهداته لبلدان إفريقية وكان هو أول مكتشف لها،كما صور الكثير من العادات في مجتمعات الهند بعد ثلاثة قرون من الفتح الإسلامي لها. والرحلة، في عمومها، صورة شاملة دقيقة للعالم الإسلامي خلال القرن الثامن الهجري،وإبرازٌ لجوانب مشرقة للحضارة الإسلامية والإخاء الإسلامي بين شعوبه، بما لا نجدهفي المصادر التاريخية التقليدية.
وهناك في أدب الرحلات، في القرن الثامنالهجري، كتاب خطرة الطيف في رحلة الشتاء والصيف لأديب غرناطة الشهير: لسان الدين بنالخطيب (776هـ)
ولابن خلدون، في أدب الرحلات، نفاضة الجراب في علالةالاغتراب وصف فيه مشاهداته في بلاد المغرب، خلال نفيه إليها، وهو في ثلاثة أجزاء. هذا بالإضافة إلى كتاب ابن خلدون (807هـ) التعريف بابن خلدون ورحلته غربًا وشرقًاوهو مزيج من السيرة الذاتية وأدب الرحلات مكتوب بلغة سلسة، مع وصف دقيق لرحلته إلىكل من بلاد الأندلس حين أقام فيها منفيًّا، وبلاد الفرنجة حين أوفده أحد أمراء بنيالأحمر إليها، ثم مصر التي أقام فيها قرابة ربع قرن متقلِّبا بين مناصب التدريسوالقضاء.
وفي العصر الحديث، أصبح أدب الرحلات شكلاً فنيًا داخلاً في الأدب،وليس دراسة تاريخية وجغرافية حيّة كما كان من قبل، ومن نماذجه في القرن التاسع عشر: تخليص الإبريز في تلخيص باريز لرفاعة رافع الطهطاوي (ت1873م)، الذي رافق البعثةالتي أرسلها محمد علي للدراسة في فرنسا، ليكون واعظًا وإمامًا. وتصور رحلة الطهطاويانبهاره بمظاهر النهضة الأوروبية، مع نقد لبعض عوائدهم في أسلوب أدبي.
كمايلقانا أحمد فارس الشدياق (ت 1887م) بكتابه: الواسطة في أحوال مالطة، وقد وصفصنوفًا من العادات والتقاليد، وبخاصة النساء المالطيات.
وبقدر ما يُعد كتابحديث عيسى بن هشام إرهاصًا بظهور أدب الرواية العربية الحديثة، فإنه معدود أيضًا منكتب الرحلات الخيالية، إذ يقص رحلة قام بها البطل عيسى بن هشام برفقة أحد باشواتمصر، بعد أن خرج هذا الباشا من قبره، وكان قد مات منذ زمن بعيد، ثم خرج يتجوَّل فيشوارع مصر ودوائرها الحكومية، ومنها المحاكم، ويصف لنا، بأسلوب أدبي ساخر، مظاهرالتحول السلبي التي أصابت الحياة. كما تلقانا رحلة أمين الريحاني التي أسماهاالريحانيات، وقد سجل مشاهداته في بلدان عربية ووصف عادات أهلها، كما زار بعض ملوكالعرب ومن بينهم المغفور له الملك عبد العزيز رحمه الله، وسجل لنا بعض أحاديثهوآرائه، هذا إلى رحلات الأديب المصري حسين فوزي التي سمّاها السندباد العصري، ورحلةتوفيق الحكيم المسماة زهرة العمر وفيها يتناول بحس مسرحي قصصي جوانب من الحياة فيباريس.
وكما شاع ـ من أدب الرحلات في تراثنا ـ أدب الرحلات الحجازية، فكذلكعرف الأدب الحديث نماذج منها: الرحلة الحجازية للبتانوني، ورحلة شكيب أرسلان: الارتسامات اللطف في خاطر الحاج إلى أقدس مطاف. وهي تمضي، بشكل عفوي، على طريقةالقدماء، وفيها قابل الملك عبد العزيز، يرحمه الله،، وسجل لنا صورة إعجاب بشخصيته،كما اعتبر موسم الحج فرصة لاجتماع الصف الإسلامي وتحقيق الوحدةالإسلامية.
وتعد رحلات حمد الجاسر لونًا جديدا في أدب الرحلات إذ سجل لنارحلاته إلى مكتبات أوروبا بحثا عن المخطوطات المتصلة بالجزيرة العربية، وسرد أسماءالعديد من المخطوطات ومحتوياتها وآراءه عنها، مع سرد لبعض النوادر والمواقف، التيتدخل بهذه الرحلات مجال الأدب الشائق الطريف.