شهر رمضان هذا الشهر الاستثنائي بين الشهور، والذي اختصت به هذه الأمة المرحومة – الأمة الإسلامية دون غيرها من الأمم السابقة..
وبالحقيقة فإن لهذا الشهر العظيم رهبة في القلوب، وان كانت هي اقرب إلى الهيبة من الرهبة، إلا أنها تختلف باختلاف الأشخاص ومعارفهم والقلوب وصفائها ونقائها، وبالتالي الإنسان المسلم وأيمانه ويقينه..
وذلك لأن رمضان – لغة: هو من (الرّمض) وهي الهاجرة.. ومنها كذلك (الرمضاء) وهي الصحراء المقفرة والحارّة الحجارة من حرارة الشمس..(1) والذي يريد الدخول إلى (الرمضاء) عليه الاستعداد التام بالروح والبدن والا فانه ولا شك سوف يضيع أو لا يخرج منها سالماً أبداً. وتضافرت الأحاديث عن أهل بيت النبوة والطهارة – عليهم الصلاة والسلام – أن (رمضان) هو إسم من أسماء الله الحسنى، ولذلك سمي (شهر رمضان) وكانوا? ينهون أتباعهم عن تداول كلمة رمضان فقط..
وعن الإمام علي? قال: لا تقولوا رمضان.. فإنكم لا تدرون ما رمضان.. ولكن قولوا: شهر رمضان كما قال الله عز وجل: (شهر رمضان..)(2) وعني الآية المباركة..
ويؤيد ذلك ما روي عن سعد قال: كنا عند أبي جعفر(عليه السلام) فذكرنا رمضان.. فقال?: لا تقولوا: هذا رمضان.. ولا ذهب رمضان.. ولا جاء رمضان.. فإن رمضان هو إسم من أسماء الله الحسنى – عز وجل – لا يجيء ولا يذهب.. وإنما يجيء ويذهب الزايل.. ولكن قولوا: شهر رمضان، فالشهر مضاف إلى الاسم الأعظم أسم الله عز وجل..) (3).
فشهر رمضان: هو شهر الله، ومهما بحثتُ عن ألفاظ تليق بهذا الشهر لم أجد أجمل من وصف الرسول الأعظم(صلى الله عليه وآله) له وذلك في خطبته في آخر جمعة من شعبان الأغر حيث يقول فيها..
(إنه أقبل إليكم شهر الله، بالبركة والرحمة والمغفرة( شهر هو عند الله أفضل الشهور، وأيامه أفضل الأيام ولياليه أفضل الليالي، وساعاته أفضل الساعات، هو شهر دعيتم فيه إلى ضيافة الله، وجعلتم فيه من أهل كرامة الله، أنفاسكم فيه تسبيح، ونومكم فيه عبادة، وعملكم فيه مقبول، ودعائكم فيه مستجاب، فاسألوا الله ربكم بنيّات صادقة، وقلوب طاهرة أن، يوفقكم لصيامه، وتلاوة كتابه، فإن الشقي من حُرم غفران الله هذا الشهر العظيم...) (4).
فما أجمل هذه الكلمات، وأر قها وأعذبها على القلب السليم، والعقل اليقظ، والضمير الحي.. فإنها ألذ من الماء البارد على قلب الضامئ في يوم هاجر..
فشهر رمضان هو فرصة للإنسان المسلم في كل عام مرة بوقت محدد وأيام معدودات، وهو عبادة رفيعة المستوى وعالية الشأن لم يسبقها الا الصلاة التي هي )عمود الدين( واللطيفة أن عماد تلك العبادة المفروضة – الصوم – هي الصلاة إذ ورد في الروايات والأحاديث أنه لكل وقت من ليل أو نهار صلوات وأدعية وأذكار تصل إلى ألف ركعة في هذا الشهر المبارك..
والمثل يقول عندنا: الصوم بلا صلاة.. كالراعي بلا عصاة..
وكما هو معلوم فأنه (ليس الهدف من العبادات، مجرد الطاعة والاستجابة من جانب الناس، والتسخير والتعجيز من جانب الله – عز وجل – فحسب.. وإنما الهدف الأهم ولأجل هي أن تفيد العباد في حياتهم، وتصقل أرواحهم كيما تلحّقه بإنسانيتهم، إلى حيث يليقون بالكرامة الإنسانية التي أرادها الله للعباد..) (5).
فالصوم طاعة من الطاعات، وعبادة من العبادات وهو الركن الثالث من أركان الدين عند المسلمين، والفرع الثاني من فروع الدين عند المؤمنين فله المقام الشامخ والتأثير الواضح على الحياة العامة والخاصة للأفراد والمجتمعات الإسلامية في كل دول العالم وأصقاعه.
والصوم جنَّة واقية، ودرع حامية.. وما على العاقل الا تحصين ووقاية نفسه من الجموح والانزلاقات وقيادتها إلى الجنان بظل الرحمن لأنه سبحانه يقول: ومن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز.. (6) وشهر رمضان هو فرصة لا تعوض، وفرصة لا تقدر..
فبالصوم نقي الروح والجسد من الهلاك والترهل ومن الكثير من الآفات والأمراض والعاهات المادية والمعنوية التي يمكن أن تصيب الجسد أو أن تصيب الروح الإنسانية..
فهو إذن – الصوم – درع يقي الجسد من الأمراض والروح والدين من الفساد، إذ أنه وبما فيه من قربات وطاعات وأذكار يشكل حصناً منيعاً يحمي الجسم الإنساني إلى أحد عشر شهراً قادمة إن كان من أهل الحياة، (وفي شهر رمضان وبليلة القدر تحدد الأعمار كما هو وارد..) ويحصّن الدين بسياج عالٍ من العبادات والقربات، ويعزز السّياج بالأدعية والأوراد والأذكار والنوافل النهارية والليلية لاسيما الصلوات الخاصة أو المطلقة في الليالي ولاسيما صلاة الليل وقيام وإحياء ليالي القدر بالصلاة والتهجد والدعاء وتلاوة القرآن الكريم.. وغيرها من الأعمال الواردة.. فكل ذلك يرفع من السّويّة الدينية لدى العبد الصائم، فترتفع بذلك الروح المعنوية والأخلاقية فيستحق الهدية ويكون من أهل الكرامة والضيافة، فللصائم فرحتان – كما ورد في الأثر – فرحة إذا أفطر – بالعيد – وفرحة إذا لاقى وجه ربه..
كما أنه ورد كذلك أنه ليس العيد لمن لبس الجديد، ولكن العيد لمن أمن الوعيد..
فشهر رمضان شهر التربية، والرياضة العملية، ومصح لمعالجة ما ألّم بالغرائز.. والضمائر.. والأرواح.. من كل ما يمكن أن يتعلق بها من أدران وشوائب، وطفيليات وطحالب، تعلق بها فتشوّهها أو تحاول أن تدسّها وتغطيها بأدرانها.
ويقول سبحانه وتعالى: (قد أفلح من زكاها.. وقد خاب من دساها..) (7).
والمقصود من ذلك هو النفس الإنسانية، فالذي يغطي روحه وضميره ويدسهما في رماد الرذيلة أو وحول الفساد الآسنة فهو لاشك خائب الحظ خاسر الصّفقة لانه يبيع الأعلى بالأدنى، والذهب بذرات الصدأ، والجواهر والدّرر بالنفايا والقذر..
نعم شهر رمضان هو انتفاضة روحية عارمة وعامة، وتوحيد للشعور المادي بين المسلمين، وتأهب سنوي لكافة الفئات والعناصر المتناقضة حول كثير من المسائل والحقائق.. (
وما أحوجنا في أيامنا هذه إلى أخلاقيات وآداب وفوائد شهر رمضان المبارك لأنه يجمع الأسرة بوحدة ونظام وحب ووئام، ويجعل التعاون والسلام شعار المجتمع المؤمن الحي فالإسلام يدعو إلى دار السلام، وشهر رمضان هو مناسبة – دورة – تدريبية لمدة شهر واحد في السنة وعلى الامة الإسلامية الاستفادة من هذا الشهر العظيم للّم شمل أسرنا المتناثرة ومجتمعاتنا التي أصابها داء الفرقة والتناحر والتباعد البغيض فيما بينهم، حيث يجمعهم الشعور الواحد بالتعبد لله بهذه الفريضة المقدسة والانحباس عن كل الملذات والمفطرات من أول ضوء وحتى آخر ضوء يشمل الأمة كلها دون استثناء، بين سيد ومسود، أو صغير وكبير، أو رجل وامرأة ممن يشملهم التكليف يرفع الأعذار فنرى اليوم أن هناك ملياري مسلم في جميع أنحاء المعمورة يفطرون عند حلول الليل وينحبسون عن كل المفطرات من لحظة تسلل أول خيوط النور والضياء معلنة عـــن قرب حلول النهار، وهم موزعون في جميع الأقطار والبلدان على سطح هذه الكرة الترابية..
فشهر رمضان يلفّ العالم ويشعر الدنيا بحلوله وقدسيته، وخصوصيته عند الأمة الإسلامية.
وشهر رمضان المبارك شهر عظيم المنزلة عند كل الأديان السماوية قديمها وحديثها وفيه نزلت جميع الكتب المقدسة – كما في الروايات –
فالتوراة نزلت في السادس من شهر رمضان..
والإنجيل نزل في الثاني عشر من شهر رمضان..
والزبور نزل في الثامن عشر منه..
والقرآن نزل في ليلة القدر. كما هو معروف وموصوف.
فيحق للبشرية أن تحيي شهر رمضان، بالاحتفالات العامة والمستمرة، بفرصتها الكبرى، وانتصارها الأكبر..
ويحق للمسلمين – بالخصوص – أن يتخذوا من شهر رمضان، أكبر أعيادهم، فالقرآن الذي هبط فيه لهم، ليس كتاباً ودستوراً سماوياً فقط، وانما هو الإسلام كل الإسلام.. ومصدر النبوة، وقانون المسلمين، ملهم ثقافاتهم وعلومهم، ومعجزتهم الخالدة.. التي تؤكد صدقهم، وشارة أسبقيتهم التي يديلون بها على العالمين، وأضخم رصيد معنوي غير قابل للنفاذ، والحصن والسلاح، الذي يتذرعون به ويزحفون..
وإذا كان الإسلام، الكلمة الأخيرة في قاموس السماء ومنهاج البشرية جمعاء إلى يوم القيامة، وأوسع الأديان وأكملها، وفوق كل دين ومبدأ، وفوق كل شيء..
فما أجدر المسلمين أن يتفوقوا على غيرهم، بقيام هذا الشهر الكريم والتزود في مناهله الروحية، والاستفادة منه كدورة تدريبية مركزة، ليعينهم على تحمل أعباء خوض عملية التنافس القائمة في عالم اليوم.
وشهر رمضان.. هو شهر الله.
شهر العرفان (قمة المعرفة الروحية).. والغفران (الذي يكون سبب دخول الجنان) في الدار الآخرة لأنه من لم تغفر ذنوبه وخطاياه – كل ابن آدم خطاء – وتشمله الرحمة الإلهية فلن يرى أو حتى يشم ريح الجنة، وهي تُشم من مسافة عشرات الكيلومترات وربما تقاس بالضوئية فالعلم عند علام الغيوب.
فالعرفان الناتج عن المعرفة الحقة بالعقائـــد الإيمانية لاسيما التوحيد والنبوة والميعاد والتي تسمى بأصول الدين الحنيف، ذاك العرفان وتلك المعرفة يجب أن تعزز بالعمل الصالح والتقيد التام بالواجبات والطاعات والإنزجار عن المعاصي والمحرمات وهو ما يسمى بالتقوى..
وعلينا في هذا الشهر العظيم أن نزيد معارفنا وذلك بتلاوة آيات القرآن، والتفكر والتدبر بها وعقد الجلسات والمحاورات حول القرآن الكريم، وكذلك قراءة الأدعية المأثورة لاسيما دعاء الافتتاح، وأدعية السحر كدعاء أبو حمزة الثمالي ودعاء الجوشن والعشرات وغيره من الأدعية المأثورة عن أهل البيت الأطهار(عليهم السلام) وهي تسلب العقول والألباب من بهائها وجمالها..
فإنك وحين تقرأها بهدوء ولطف تشعر وكأن شلالاً من النور يسقط عليك، أو أنك تسبح في بحيرة من النور الذي لا يمكن أن يوصف مهما رهف القلم والحس والشعور، فتلك لحظات مغمورة بالنور، والنور عصي عن الوصف كما الشعور تماماً..
فشهر الله الأعظم: هو شهر العمل الدؤوب، والأجر والثواب الجزيل من الله سبحانه وتعالى، للأفراد والمجتمعات على حد سواء (فبالصوم يصبح المجتمع ملائكياً، يشعر الأغنياء والفقراء فيه بالمساواة، فلا ويتساوي فيه الفقير والغني، فلا يستعلي الغني فيه على الفقير، فيكون المجتمع الملتزم بالصوم، معجزة من معجزات الإسلام، التي عجزت عن الإتيان بمثلها قوانين الأرض..).
بسم الله الرحمان الرحيم
فالصوم يفعل المعجزات – بالحقيقة والواقع – وهذا ما أكده القرآن الكريم بخصوص السيدة مريم العذراء(عليها السلام) التي قالت بتوجيه من وليدها المبارك كما حدّث عنه القرآن الكريم (و إما ترين من أحد فقولي: إني نذرت للرحمن صوماً..) فالنذر بالصوم جاء معجزة ما جاء الزمان بمثلها وهو عيسى المسيح بن مريم فقط – عليهما السلام – كما أن نذر آهل البيت – عليهم السلام – كان صوماً الذي حكت عنه سورة الإنسان (ويوفون بالنذر..) فكانت كذلك معجزة الشفاء للإمامين الحسنين(عليهما السلام)، وكان جزاء الجميع جنة وحريراً، لذلك فأنه على المسلم ان لا يفوّت هذه الفرصة، ويغتنم كل ثمراتها لينال ثواب الدارين، وينال بركات الصوم، المادية والمعنوية..
فالصوم له فعل معجز بالنسبة للأفراد والمجتمعات معاً.. فعلينا بالصيام الحقيقي أفرادا ومجتمعات لكي نبني أمتنا ونعيد لها أمجادها وإذا نجحنا فإننا نكون قد فعلنا معجزة من المعجزات..
والله الموفق والمستعان، والحمد لله رب السماوات.
- الهوامش :
(1) معجم مقاييس اللغة ج 2، ص 440.
(2) حديث رمضان للسيد الشهيد حسن الشيرازي(قد) ص51.
(3) حديث رمضان للسيد الشهيد حسن الشيرازي(قد) ص51.
(4) حديث رمضان للسيد الشهيد حسن الشيرازي(قد)
(5) ن.م ص31.
(6) آل عمران 185.
(7) سورة الشمس آية 9 - 10.
(
حديث رمضان ص 29.
منقــــــــول عبدالحسين السيد