قصة قصيرة ( كـــــــبــــــوة )
ابراهيم عبدالعزيز المغربي
في حي البديعة المتناغم جمالا وضياء ، عشت طفولة لم تأخذ من الرياض بهجتها ونورها ، في مكتبي الفسيح ، بأنواره المتنوعة الخافتة ، وعن يميني بالممر القريب تقع غرفة الاجتماعات بألوانها الخلابة ، تحاكي لوحة رسام ، بتنظيم فنان . جلست على كرسيي وقد أعياني التعب بعد ساعات مرت من يوم عمل .
شبكت بين أصابع يدي ، ووضعتها في حركة غير إرادية خلف رأسي التي أسندتها أعلى الكرسي ، أغمضت عيني التي أصبحت أغالبها فتأبى جفوني إلا الإطباق ولم يوقظها سوى عدة تنهدات عبرت بها عن الدخول لسنوات طال العهد بها ، اختصرت لدي في بضع دقائق ......آااااااه ...
ذاك الطفل الصغير ، يعيش مع إخوته الأربعة وهو خامسهم ، يعيش مع أسرته رغم معاناته من عزلة شعورية . أسرة متوسطة الحال ، لم يأتها رزقها رغدا كالكثير من الأسر ، في بيت متواضع البناء والأثاث ، أسرة لم تعرف من الترفيه سوى التلفاز ، أقضي معه معظم الوقت معزولا ، وحيدا . أتحين وقت انشغال إخوتي فأنفرد به مع المصارعة وأفلام الكرتون.
كنت أحلم بما أسمع من زملائي وهم يتحدثون كلا عن غرفته الخاصة، وما ينعمون به من حنان إخوتهم وأهليهم في مقابل ما أنقم على نفسي من التعامل بالضرب لأتفه الأسباب ، ودونها .
كذلك الإهانة من أخي الأكبر ناهيك عن أبي ...
لم أعرف لي ذنبا، ولم أفكر في سبب جفاف المشاعر، وانعدام الحنان من قبل أمي وأبي وإخوتي مع الإهمال ، وانشغال كل فرد منهم بنفسه . وربما كان ذلك هو السبب.
لم يحن أبي علي يوما بزيارة للمدرسة لعل ذلك يعطيني قدرا من الثقة والأمان والفخر بنفسي . كانت الحسرة تتعمق لدي عندما أجد أحد الأباء مع المرشد بالمدرسة فلم أقطع الأمل في مجيء ذلك اليوم الذي أرى فيه أبي يزور المدرسة .لكن شعوري أن والدي بينه وبين هذا الفعل بون شاسع.
ومن يعطيه هذا القدر من الاهتمام بي وهو الذي لا يشعر بغيابي من المدرسة ولم يلتفت له كثيرا .
آااااااااااه .
حتى أمي لم تكن لديها الشجاعة يوما لتعبر لي عن حبها واهتمامها بي . أشعر أنني أستمد ضعفي من ضعفها ، لعلها تخاف من بروز اهتمامها بي أمام أبي فأنا عنده الراسب ، الخائب ، المتأخر عن أبناء عمومتي دون سبب يعرفه .
ويوم أن سقط الكأس من يدي بجانبه حصلت على قسط من الضرب المبرح ، وعند قومة أمي على خجل ،وبصوتها الخافت وقفت بيني وبينه فنالها من نوع ما نالني ورجعَـت بكومة من التوبيخ والإهانة ، ثم انتهى الموقف ببعض ألفاظ الجهل والغباء والتخلف . فكانت الرسالات السلبية طعنات لامست قلبي وشعوري . لم أستطع مسح أثرها مع تطاول السنين .
ما أصعبه من شعور أن يعيش الطفل يتيما وهويعيش في حضن أم تخلت أو أب مشغول .
ساعدني البيت على بغض المدرسة . ومع تكرار الاتهام بعدم الأهلية لاستحقاق النجاح ، ولن أنجح ، ولن أكون مثل زملائي فترسخ في أعماقي شعور بغيض بالنقص والضعف فصارت المدرسة غير مرغوب فيها .
وركن عقلي وتقوقع على هذا الكره ، فلم أعد أتقدم دراسيا مع قلة الاستيعاب والاستعدادا للدراسة .
يعلق بذهني نبأ رسوبي بالصف الثاني ، والدمعة الرقراقة في عين أمي وهي تربت على كتفي بعد العنف والتوبيخ من أبي ولمز إخوتي . على الوقت الذي ضاع في التلفاز واللعب وألعاب الكرتون التي أضحت في عرفهم سببًا وحيدًا لعدم إتقاني لما أسموه (مهارات ). لم أجد ركنا شديدًا آوي إليه ، ............
صباح جديد ، جديد بما يحمل من جديد .إنه والدي .. اليوم بالمدرسة مع المرشد الطلابي بعد الاستدعاء لدراسة حالتي ، وقد أُحضِرت للمكتب ، و جلس أبي ، ولا يبدو عليه التعالي الذي يلمسه الجميع بالمنزل ، والخوف الذي نشعربه عند وجوده، وقد نسيا أن يصرفاني حتى لا أحضر الحوار ، وأنساهم أنني لن أدرك ما أغوار الحواربينهما و صراحة ما سيدور من نقاش هو خاصتي .
بدأ أبي يعزو ما أنا فيه للتلفاز ، وأفلام الرعب ، والمصارعة ، وقد ثنى المرشد بذكر توصيفها بالإهمال ، والذهول ،وغياب الانتباه ، وضعف الوعي الدراسي .
نَـعتنِي بالعدوانية مع زملائي ، وضياع التنظيم ، وضعف المشاركة ، واتهمني بالعنف .
ثم عرج المرشد ينصح أبي بالاقتراحات العلاجية . وأن بداية الورشة التي يجب انضمامي إليها لابد وأن تكون هي التوافق النفسي .
ما زلت أتذكر المرشد وهو يعنف أبي على الضرب والتهديد , وأن ما يصدر من قبلي من عنف هو نتيجة طبيعية لما ألا قيه من معاملة وقسوة بالمنزل ، وأن ناتج استمرار هذه المعاملة هي خسارتي في النهاية،
وأن هذه المرحلة للبناء لا للهدم . ثم انهال عليه بسيل جارف من الأسئلة أظنها أثارت حفيظته، وأيقظته من سباته :
هل يحصل ابنك على الحوافز والتشجيع المناسب للمرحلة العمرية ؟ هل تسمع لشكواه ، وتتعرف احتياجاته؟ ما النتيجة المرتقبة إذا اصطحبته بسيارتك وفتحت له الطريق ليحكي لك ما يشعر به كما هم زملاؤه،
ـ تغيرت ملامح وجه أبي ، رأيت الارتياح على وجهه ، وظهر القبول الذي لم أعهده قبلا . أغدق عليه المرشد من النصح ما لم يتوقعه :
الاهتمام بدروسه وواجباته ، ، جدد الثقة بينك وبينه ، ولتكن البسمة رسولك إليه ، تقرب منه وقربه منك . شاركه الكلام والنقاش ، عزز الإيجابيات لديه من مهارات ومواهب. وتغاضى ـ قليلا ـ عن سلبياته . وليكن الهدف تعديل السلوك . ضع ضمن الأهداف صلحًا وعدلا بينه وبين إخوانه، بالهدية والمدح والعدل بين الجميع.
جدد التواصل بالمدرسة ضمن برامج أيامك ولنتعاون لنجدد الشعور لديه بطفولة سوية ، مطمئنة ، بنزع التوتر ، والنفسية المبعثرة ...
لقد رأيت القبول والبشر على وجه أبي وقد شع أثر الرضا من وجهه . والتنفيذ ......آااااااه .......
دق الباب ............. ارتفع الصوت .... أكثر...... استيقظت من غفوتي ..
من؟
سعادة المدير ...... وصل عدد من الموظفين . . . الاجتماع بعد دقائق