محاضرات فن المونتاج
مقدمة:
" طموح السينما للالتصاق بالواقع والذوبان فيه من جهة ورغبتها فى إظهار خصوصيتها كسينما واصطلاحية لغتها , والتأكيد على سيادة الفن فى عالمها الخاص من جهة أخرى, هما عدوان يعتمد أحدهما على الآخر كقطبي المغناطيس الشمالي والجنوبي, يوجدان معا ويولدان حقل التوتر البنيوي الذى يتحرك فيه مجمل التاريخ الحقيقي للسينما "
" المونتاج هو البناء اللغوي للسينما , ولغة القواعد فيه . .
ومثل قواعد اللغة يجب تعلُم البناء اللغوي للمونتاج ,
وإلا فإننا لا نملكه فى أعماقِنا " .
تيرى رامساى
المونتاج هو أكثر العناصر السينمائية خصوصية . وقد اختلفت أهميته بين وسائل تعبير الفن السابع , وإن ظلت هذه الأهمية مؤكدة. ونستطيع تعريف المونتاج علي أنه ترتيب لقطات الفيلم وفق شروط معينة للتتابع وللزمن . ولا شك أن قيمة فيلم ما تعتمد إلي حد كبير علي قيمة المونتاج .
ورغم أن عملية المونتاج تعتبر اليوم عملية طبيعية لا يمكن إلغاءها غير أنها لم تنشأ مع اختراع السينما توغراف , ونستطيع القول بأن نشأة عملية المونتاج ترجع إلي يوم التفكير في تعديل وجهة نظر الكاميرا في مشهد ما أثناء حدوثه . أي عند التفكير في تغيير وضعها للوصول إلي وصف أوضح للحدث أو إلي بناء درامي أفضل . وقد ارتبط مفهوم المونتاج ارتباطاً وثيقاً بمفهوم التقطيع : وهما لحظتان يكمل كل منهما الآخر ولا ينفصلان في عملية الإبداع السينمائي : اختيار وتنظيم الواقع من أجل إنتاج عمل فني .
وفي اللغة الفرنسية تعني كلمة مونتاج Montage عمل المونتير التقني ونتاج هذا العمل الفني . وليس هذا الجزء التقني من عمل المونتاج هو الذي يشكل موضع الصعوبة , ففي هذا المجال تصبح المعرفة أمراً ضرورياً يسهل استيعابه . والواقع أن عمل المونتير فني أكثر منه تقني يكون فيه الحافز ضرورياً حتي لو اعتمد كلية علي التطبيق العملي . فالمونتير يشارك في تحقيق العمل فنياً .
إن مغزي اللقطة يتوقف في الواقع ليس فقط علي ما تمثله هذه اللقطة وإنما علي زمانها على الشاشة الذي يقدره المونتير مباشرة . هكذا يعطي المونتاج معني الترقيم والايجاز والإيقاع في الحكاية المرئية .
ويعادل تبرير المونتاج النفسي متطلبات الرؤية لدي المتفرج الكامل (المثالي) الذي يشاهد الحدث في كل لحظة بشكل أوضح وأكثر تحديداً واكتمالاً . في إطار هذه الرؤية الفوقية الذكية يمكننا أن نعتبر أن الانتقال من لقطة لأخري يتحدد من خلال الإدراك البصري أو التوتر الذهني . ونظراً لوجود هذا التساؤل المستمر بين كل لقطة واللقطة التالية لها يصبح تتابع اللقطات مفهوماً لدي المتفرج ويعادل في الواقع رؤيته هو الطبيعية , والتي تصبح واضحة ثاقبة بشكل مثالي مع مطابقتها لذاتها تماماً .
من تقابل صورتين يتولد المعني , أي الفكرة التي لاترتبط بأي من الصورتين علي حدة . ولأن المونتاج يعيد بناء الواقع تشكيلياً وفكرياً بشكل مستقل عن محتوي هذا الواقع الدرامي , ونظراً لطابع المونتاج الجمالي وتسيده , فإنه يظل بين وسائل التعبير السينمائي الأكثر خصوصية .
ازدهار فكرة المونتاج :
مقدمة
" السينما هى بالنسبة إلينا الأهم بين جميع الفنون "
لينين
برغم أن فن السينما قد شهد على مدى الخمس والعشرين سنة الأولى من مولده , خطوات خلاقه متعددة من خلال الدول المختلفة , إلا أن السينما الروسية لم تكن قد أسهمت بعد بأية خطوة فعالة فى هذا المضمار .
فلقد ظلت السينما فى روسيا متخلفة عن الركب العالمى , إلى أن قامت ثورة أكتوبر الاشتراكية (1917) وبدأت اهتماماَ بالفنون كى تعبر عن مضمونها الاشتراكى الجديد . وحظيت السينما بنصيب متميز من هذا الاهتمام , تمثلت أولى خطواته فى تأميم صناعة السينما عام 1919 .
وللتعبير عن هذا المضمون الاشتراكى الجديد , بحثت السينما , ووجدت أشكالاَ جديدة ترجع جذورها إلى الثقافة القومية وإلى إبداع شعوب الاتحاد السوفيتى , وغداَ من الواضح أن الاشكال القديمة لم تعد صالحة للتعبير عن الأفكار الجديدة والواقع الثورى الجديد .
فعندما بدأ المخرجون الروس الشبان العمل فى السينما , وجدوا أنفسهم ينتمون لصناعة تخلو كلية من أى تقاليد قومية . فقد كانت الأفلام الروسية قبل الثورة عبارة عن أفلام تجارية تنتج بسرعة ولا تتميز بشىء . وكانت السطحية والتزييف فى هذه الأفلام تخالف رغبة المخرجين الثوريين الشباب الذين اعتبروا أنفسهم مدرسين وناشرى دعوة أكثر مما ينتمون إلى الترفيه العادى التقليدى .
وعلى هذا كانت لهم مهمتان : استعمال الفيلم كوسيلة لتوجيه الجماهير وتثقيفها فيما يختص بتاريخ ونظريات الحركة السياسية , وتدريب جيل جديد من السينمائيين لتحقيق هذه المهمة .
وبرغم تخلف الأجهزة السينمائية وندرة الفيلم الخام وقتذاك بسبب سنوات الحرب الأهلية والثورة المضادة , إلا أن حماسة السينمائيين السوفييت قد جعلت من هذه النقيضة ميزة , فقد انطلق هؤلاء يدرسون ويجربون حتى استطاعوا فى النهاية أن يشدوا انتباه العالم بنتائج دراساتهم وتجاربهم .
وقد أسفرت هذه الظروف عن نتيجتين :
الأولى , أخذ المخرجون الشباب يبحثون عن أساليب جديدة فى السينما للتعبير عن الأفكار فى خدمة أهدافهم السياسية .
والنتيجة الثانية , تطوير نظرية جديدة فى صناعة السينما لم يطرقها جريفث من قبل , فبينما كان المونتاج يعتبر مجرد عنصر قوى يساعد على الإبراز الحى للقصص الدرامية نجد أن الروس اعتبروا المونتاج الأساس الجوهرى لعملية الخلق فى الأفلام .
وهكذا ومن خلال بحثهم عن وسائل تعبير جديدة للموضوعات الجديدة وضع الفنانون الروس المجددون أسس مبادىء المونتاج , وكان ليف كوليشوف , وفسيفولود بدوفكين وسيرجى أيزنشتين من أهم هؤلاء الفنانين المجددين .
كوليشوف وجوهر المونتاج
كوليشوف هو أول من علمنى معنى كلمة " مونتاج " وهى الكلمة التى لعبت دوراَ فى تقدم الفن السينمائى .
بودفكين
وضع كوليشوف مبادىء نظرية السينما وأسلوب تعليمها , وذلك بخبرته وبحثه الإبداعى وتجاربه فى مجال المونتاج وإعداد الممثلين , وتنظيم الإنتاج السينمائى , بالإضافة إلى مقالاته النظرية حول خصائص الفن السينمائى . وبفضل موهبته كمجرب , ومنظر, ومعلم , جمع حوله مجموعة كبيرة من شباب الخرجين مثل" بودفكين , وفوجيل , وخاخلوفا , وبارنيت , وكاماروف " . وذلك للبحث فى خصوصيات فن المونتاج . . وقد بدأ هؤلاء القيام بأبحاث طويلة عن الأفلام القديمة , وأبدوا اهتماما خاصا بما حققه جريفث وخاصة فى فيلمه " التعصب " .
ويقول بدوكفين فى كتابه " تكنيك الفيلم " : " إن هذه الأفلام كانت تعرض المرة تلو المرة , و"تفصص" وتحلل , وتناقش . كانت الأفلام تمزق تمزيقاَ تاماَ ثم يعاد ترتيب لقطاتها , كانت المشاهد يعاد تركبها بطرق مختلفة . وفى كل مرة كانت تدرس الآثار الجديدة لمعرفة ما إذا كان قد طرأ عليها أى تحسن أو أن مضمونها الأصلى قد تغير " .
كانوا جميعاَ يؤمنون بالأهمية القصوى للمونتاج . وقد رأوا بوضوح ما كان جريفث قد أحس به بشكل غريزى . وعبروا عن رأيهم بأن المونتاج لا يستمد قوته من مجرد تقسيم المشاهد إلى لقطات يمكن عرضها بطريقة أكثر حيوية وواقعية فحسب , بل أن أهمية المونتاج تكمن فى أن اللقطات المتتابعة تخلق فيما بينها مجموعة من العلاقات المتشابكة , علاقات تتصل بالفكرة وعلاقات تنشأ عن طول هذه اللقطات وعلاقات تتصل بالحركة المادية , وبالشكل , بحيث إنه لو استخدمت هذه اللقطات بمهارة لأمكن توجيه أفكار المتفرجين وخلق تداعى المعانى فى أذهانهم .
وكانت بداية الإتجاه نابعة من وجهة نظر كوليشوف التى عبر عنها بقوله : " إن كل فن يحتاج أولا إلى مادة أولية , وثانياَ إلى وسيلة لتكوين هذه المادة يختص بها هذا الفن وتتناسب معه . فالموسيقار يجد مادته فى الأصوات التى ينظمها داخل إطار زمنى ومادة الرسام هى الألوان التى يستخدمها فى مساحة معينة على سطح لوحاته , فما هى إذن المادة التى يملكها المخرج السينمائى ؟ وما هى وسيلة استخدام هذه المادة ؟ " .
وبلور كوليشوف إجابته عن التساؤل الذى طرحه فى رؤيته بأن مادة العمل السينمائى هى قطع الفيلم , وأن وسيلة استخدامها تتمثل فى وصل هذه القطع حسب ترتيب فنى معين . وعلى ذلك , فقد رأى أن الفن السينمائى لا يبدأ عند قيام الممثلين بأدوارهم أو تصوير اللقطات المختلفة . بل أن كل ذلك ليس إلا مجرد إعداد للمواد . ومن ثم فإن الفن السينمائى يبدأ من اللحظة التى يبدأ فيها المخرج فى وصل أجزاء فيلمه , ومع قيامه بوصل هذه الأجزاء بطرق مختلفة وحسب ترتيبات متباينة فإنه يحصل على نتائج تختلف عن بعضها البعض .
وقام كولبشوف بتدعيم نظريته من خلال تجربة شهيرة تمثلت فى ترتيب ثلاث لقطات من أفلام مختلفة بطريقتين مختلفتين ليرى نتيجة هذا الترتيب ." ففى اللقطة الأولى كان هناك وجه مبتسم , وفى اللقطة الثانية وجه فزع , وفى الثالثة مسدس موجه إلى شخص ما , وفى الترتيب الأول قام بلصق لقطة الوجه المبتسم ثم لقطة المسدس ثم لقطة الوجه الفزع . وفى الترتيب الثانى بدأ بلقطة الوجه الفزع , تليها لقطة المسدس , ثم لقطة الوجه المبتسم . وهنا أكتشف أن الطريقة الأولى توحى للمتفرج بأن صاحب الوجه رجل جبان , والطريقة الثانية توحى بأنه شجاع " . وهكذا أثبت أن تغيير ترتيب اللقطات فى المشهد دون إجراء أى تعديل فى اللقطات ذاتها قد أدى إلى تغيير معنى المشهد .
وفى تجربة أخرى أجراها بمساعدة بدوفكين , " قاما باختيار لقطة كبيرة لوجه ممثل بأسم " موسجوكين " وهو جامد لا يظهر عليه أى تعبير ثم أوصلاها أولا مع لقطة لطبق شوربة موضوع على المائدة . ومرة أخرى مع لقطة . تمثل امرأة متوفاة راقدة فى كفنها . وفى مرة ثالثة مع لقطة لطفلة صغيرة تلهو بلعبة على شكل دب " . وعندما رأى المتفرجون هذه التجربة اثنوا على أداء موسجوكين لتعبيراته المختلفة التى توهموها فى كل من نظرة الجوع التى وجهها إلى صحن الشوربة , ثم حزنه على المرأة الميتة , وأبتهاجه برؤية الطفلة , هذا برغم أن تعبير الوجه فى الحقيقة كان واحداَ فى الحالات الثلاث .
وكانت هذه النتيجة بالنسبة إلى كوليشوف دليلاَ قاطعاَ على نظريته التى قامت على ما كان جريفث قد وصل إليه بالغريزة . وهى أن الصورة يمكنها أن تستمد دلالة خاصة من مقابلتها بصورة أخرى . وأن ترتيب الصور هو الذى يخلق الشخصية العاطفية فى المشهد .
وبفضل بحوثه فى العلاقة بين لقطة وأخرى , والتجميع المدروس بكل دقة لأبرز حركات الذراع أو الساق أو اليد , وأسلوب إضافة التفاصيل بعضها إلى بعض , نجح كوليشوف فى إظهار المشاعر بقوة وبوضوح إلى درجة لم يصل إليها جريفث على الإطلاق . ففى تجربة أخرى قام بتصوير أيد ,وأقدام ,وأعين لنساء مختلفات , واستطاع بواسطة المونتاج أن يربط بين هذه الأجزاء المتفرقة لتبدو وكأنها حركات لامرأة واحدة فقط . وأظهر بذلك ان الصورة النهائية لأى ممثل بمفرده لا تعتمد على اللقطات المتفرقة له أثناء العمل , وإنما يخلقها المونتاج عندما يصل الأجزاء المختلفة ليكون وحدة الفيلم .
كما أثبت كوليشوف أيضاَ من خلال تجاربه أن المسافات المكانية فى السينما تتأثر إلى حد كبير بعملية المونتاج التى تعد العملية الرئيسية فى السينما . فعندما يقوم المخرج بوصل السيلولويد المختلفة , فإنه يخلق مسافات سينمائية ليس لها أدنى صلة بالواقع , فهو يجمع عدداَ من المناظر أو اللقطات التى تم تصويرها فى أماكن عديدة متفرقة ويوحد بينها لتبدو وكأنها تدور فى مكان واحد , وبفضل هذه القدرة على إلغاء المسافات بين الأشياء المختلفة فإن المسافة السينمائية لا تعدو أن تكون وسيلة للربط بين عناصر حقيقية متفرقة سجلتها الكاميرا , وهو ما أسماه كوليشوف " بالخلق الجغرافى " . " ولإثبات ذلك قام بجمع خمس لقطات تمثل على التوالى :
1 - لقطة لرجل يمشى من اليسار إلى اليمين .
2 - لقطة لأمرأة تسير من اليمين إلى اليسار .
3 - لقطةللرجل والمرأة يلتقيان ويتصافحان ثم يشير الرجل إلى اتجاه معين .
4 - لقطة لبناء أبيض كبير يتقدمه سلم فسيح .
5 - لقطة للشخصيتان تصعدان بخطى متناسقة على سلم .
وبرغم ان اللقطات قد ألتقطت فى أماكن شديدة التباعد , حيث أن البيت لم يكن سوى لقطة من فيلم صعود الشخصيتين للسلم قد صورت أمام كتدرائية فى موسكو - فإن المشهد فى النهاية أعطى إحساساَ قوياَ بوحدة مكانية كاملة . ذلك لأن المساحة الفيلمية تتكون دائماَ على هذا النحو من أجزاء وقطع , وتنشأ وحدتها من تتابع خلاق .
ولقد كان كوليشوف أول من حاول فى مقالاته تحديد خصائص السينما التى تميزها عن المسرح والأدب والفنون التشكيلية . وبين كيف لعبت هذه الخصائص دوراَ إيجابياَ كبيراَ فى نشأة السينما كفن مستقل قائم بذاته . وأن المونتاج هو خصوصية السينما الأولى .
المصدر: منتديات القمه